عندما يستمع المرء لأحد خطابات الجنرال اللبناني ميشال عون، أو أحد برامج تلفزيونه، يخيَّلُ إليه أنّ الرجل معرَّضٌ شخصيًا ومع صهريه أولاً، ثم سائر المسيحيين، للقتل والإبادة من جانب أهل السنة في لبنان، لأن كل السنيين في نظره داعشيون! وقد تعودْنا على هذه الرؤية (السمحة والمستنيرة) من جانب الجنرال ووسائل إعلامه من سنين، أي قبل ظهور «داعش» بمدة. وكنا وقتها من وجهة نظره متعصبين وإرهابيين، وآكلي حقوق المسيحيين ولحومهم! إن الطريف، بل وذا الدلالة، أنّ كل السياسيين والمثقفين المسيحيين الذين قُتلوا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، هم جميعًا ومن دون استثناء من خصوم الجنرال عون، ومن حلفاء السنة. ونحن نعرف بالطبع، ومنذ عام 2005، لماذا يقف الجنرال وصهره هذا الموقف من أهل السنة. إذ منذ ذلك الحين، بل من قبلها بعقدين، يريد الجنرال أن يصبح رئيسًا للجمهورية. وقد أضاف لذلك أخيرًا مطلب أن يكون أحد صهريه قائدًا للجيش، أما صهره الآخر فينبغي أن يتولى اختيار كل حصة المسيحيين في الدولة اللبنانية (!). وهو يعتبر أنّ أهل السنة هم الذين يحولون دون تحقيق أحلامه (المتواضعة)، بوصفه زعيم المسيحيين الأوحد في لبنان منذ كانوا! رهبة الجنرال عون من السنة مصطنعةٌ إذن وقصدها الابتزاز. إنما إذا كان أهل السنة على هذا الجبروت والإجرام، أفلا يخشى الجنرال شرّ هؤلاء وأهوالهم فيسكت عنهم، كما سكت عن حزب الله، بل وتحالف معه منذ عام 2006 وحتى اليوم. وهو يكرر للمسيحيين رجاء إقناعهم أنّ الحزب بقتله للسوريين ومناصرته لبشار الأسد في مواجهة شعبه، إنما يُسهمُ في حماية المسيحيين وسائر الأقليات من «داعش» وأهل السنة! الواضح إذن أنّ المشكلة المتمثلة في قتل الناس بسوريا والعراق ولبنان واليمن، إنما هي مع إيران وميليشياتها المنتشرة في البلاد العربية. وهؤلاء يبررون قتل السوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين وتهجيرهم بأنهم تكفيريون، وأنهم يعتدون على مزارات أهل البيت، ويريدون قتل الشيعة. إنما على الأرض لا نرى قتالاً بين «داعش» وحزب الله والميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية التي جلبها الإيرانيون إلى سوريا والعراق للدفاع عن أهل البيت وقتل الكفّار! بل نرى أنّ الحزب والميليشيات الأخرى وجيوش النظامين السوري والعراقي تقتل وتهجِّر السنة من غير «داعش»، والذين لا يكفّرون ولا يقاتلون وفي معظم الأحيان لا يستطيعون حتى الدفاع عن أنفسهم! من ذلك نعرف أنّ «داعش» ضروري لحزب الله. كما أن حزب الله و«الحشد الشعبي» ضروري لـ«داعش». إذ كيف يمكن تبرير قتل الناس وتهجيرهم لدى الحزب وفصائل «الحشد الشعبي» إن لم يكن هناك ادعاء بوجود «داعش» بينهم أو أنّ أكثرهم تكفيريون وداعشيون! وهذا هو الذي حصل في القصير والقلمون وعرسال وجرودها، وفي سائر أنحاء سوريا. وهذا هو الذي حصل ويحصل بالعراق، ليس بعد «داعش»، بل منذ سقوط نظام صدام على أيدي الأميركان عام 2003 وإلى اليوم والغد وبعد الغد. إنّ هذه وقائع دامغة، لا تحتاج إلى شواهد. ومع ذلك فالشواهد تفقأ العين والأذن. رُبع اللاجئين السوريين في لبنان بالذات هجَّرتهم ميليشيات نصر الله التي غزت مناطق في سوريا بحجة حماية الشيعة، فأدخلت بذلك عشرات الألوف إلى لبنان قسرًا. و90 في المائة من مجموع المهجَّرين السوريين بالداخل والخارج (بحسب الأمم المتحدة 5.12 مليون) إنما هجرتهم قوات النظام. والثلاثة ملايين سني بالعراق الذين تركوا منازلهم عبر عشر سنواتٍ إنما هجّرتهم الميليشيات الشيعية المتأيرنة أو القوات الرسمية للحكومة العراقية المتأيرنة أيضًا! ولنتوقف للحظات عن استعراض تهجير وقتل أبناء «الأكثرية» العربية السنية على أيدي «الأقليات» الشيعية والعلوية والحوثية الخائفة منهم (!) ولنتأمَّل أفعال «القاعدة» و«داعش» في أوساط السنة أيضًا. هؤلاء القتلة يتحدثون كل الوقت ضد الشيعة ويسمونهم الروافض.. إلخ. لكنّ هذا الأمر ليس أكثر من دعاية لاستجلاب تأييد بعض السذَّج. أمّا على الأرض؛ فإنّ كل الأماكن التي يتمركز هؤلاء فيها هي مواطن سنية، ومن اليمن (مع القاعدة في جزيرة العرب)، وإلى سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان وباكستان ونيجيريا. وهم الذين شرّدوا في حركاتهم مئات الآلاف من السنة، قبل أن تدخل إيران وميليشياتها على المشهد فتشرد الملايين مع الأسد والمالكي وعفّاش! لماذا يفعل القاعديون والداعشيون ذلك؟ لأنهم انشقاقات في قلب أهل السنة. والانشقاق يقاتل الأصل الذي انشقّ عنه لنزاعه على الشرعية معه، قبل أن يقاتل الخصوم الواقعيين أو المتصوَّرين! لماذا تظهر «الأكثرية» بمظهر من يُخيف رغم أنها ما عادت تخيفُ أحدًا حقيقةً، ورغم أنها تتعرض للإبادة أو التهجير في كل مكان، حتى في بورما والفلبين وتايلند؟! إنّ الذي أراه أنّ 70 في المائة من دعاوى الخوف من التكفير والاضطهاد هي دعاوى باطلة، ويُقصدُ بها المزيد من تبرير القتل والتهجير. وهذا ديدن الميليشيات الإيرانية والأسدية والعفّاشية. أمّا الـ30 في المائة الأخرى فلها أسبابها الإعلامية والانتهازية. وهذا ديدن الجنرال عون، وديدن وسائل إعلام بأوروبا وروسيا والصين وأستراليا والولايات المتحدة. هؤلاء يقولون إنّ «القاعدة» كانت رائدةً في الهجوم على الآخرين، ولا يزال ألوف الشبان يسارعون للقتال مع «داعش» وليس في سوريا والعراق فقط، بلا ويمكن أن يعودوا لارتكاباتٍ إرهابية في أوروبا وغيرها. إنّ الأقليات في منطقتنا لا تتصرف في الحقيقة تصرُّف الخائف، بل تتصرف تصرف المنتصر الذي يريد تأبيد انتصاره في سوريا والعراق ولبنان واليمن وأفغانستان. ذلك أنّ هذه الأقليات تسيطر على «الأكثريات» العددية في كل هذه المواطن. وقد أخافتها تحركات عام 2011 المدنية والمسالمة، والتي حاول الجمهور من خلالها استعادة هويته ومشاركته في إدارة شأنه العام، والذي اغتصبته الأقليات المذهبية والدينية والجهوية والمالية والإثنية منذ عقودٍ وعقود. ومن جهةٍ أخرى؛ فإنّ قلّةً من أهل السنة العرب وغيرهم أصيبت بالرعب بالفعل، وصارت تتصرف تصرف الأقلية الخائفة، باستخدام العنف ضد ضعفاء آخرين، فأسهمت من حيث لا تدري في زيادة العنف ضد الجمهور الضائع والهائم على وجهة في كل مكانٍ في البر والبحر. إنّ هذه الشعوب تحتاج إلى تأمين وحماية وطمأنة. ومن الميليشيات الإيرانية والسلطات القاتلة والجيوش غير الوطنية في سوريا والعراق واليمن، ومن «القاعدة» و«داعش» في الوقت نفسه. نحن السُّنة نعد 90 في المائة من العرب، و93 في المائة من المسلمين. ونحن المقتولون والمذبوحون والمهجَّرون في كل مكان، وتُلاحقُنا الاتهاماتُ بالإرهاب والتكفير. ومع ذلك؛ ليس من حقنا أن نسلك سلوك الأقليات الخائفة أو المنتصرة. الحلُ في عواصف حزم في كل مكان أو لا يبقى عربٌ ولا سنة!