مفهومٌ، بل مرغوب بمعنى ما، أن تناهض الجماعات التابعة لإيران الثورة السوريّة منذ يومها الأوّل. ذاك أنّ الأخيرة تصدم، في وقت واحد، المنظومتين الإستراتيجيّة والفكريّة للممانعة كما تقودها طهران، وتستبطن للمنطقة نصاباً من المعقوليّة التي أطاحها ثنائيّ التمدّد الإيرانيّ والتقلّص العربيّ. ومفهومٌ أن تقف الشُلل اليساريّة المبعثرة، المسكونة بعداء ماهويّ للولايات المتّحدة، ضدّ الثورة السوريّة بوصفها غيّرت خريطة التناقضات والأولويّات، جاعلةً مسألة الحرّيّة والاستبداد في الداخل تتقدّم على سائر الاعتبارات التي فُرضت عقداً بعد عقد على الشعوب العربيّة ترهيباً وترغيباً. مع هذا، ثمّة مسألة لم يعد جائزاً إنكار وجودها، أو التقليل من أهميّتها وأهميّة دلالاتها، والاكتفاء بمعالجة لها تقوم على الكتمان والتحايل: إنّها مشكلة الثورة السوريّة مع أطراف تقدّميّة عريضة خارج سوريّة. فهذا ما رأيناه منذ أيّام الثورة الأولى، ليشتدّ لاحقاً، في كلّ من تركيّا وتونس وسواهما. والحال أنّها مشكلة كان ينبغي، مبدئيّاً ونظريّاً، ألاّ تنشأ أصلاً، إلاّ أنّ ما أنشأها، في آن واحد، هو أزمة تقدّميّة التقدميّين خارج سوريّة وأزمة ثوريّة الثورة في سوريّة نفسها. فتقدّميّة التقدّميّين لا تنجو من الطعن والتشكيك حين لا ينتبه أصحابها إلى الألم السوريّ، وحين يُخرجون من أجندتهم الحداثيّة والتقدّميّة موضوعةَ الطغيان ومسألةَ الحقّ في الثورة على استبداد كذاك الأسديّ الممتدّ والتوريثيّ والعميق في آن. فكأنّ العلمنة ومساواة المرأة بالرجل وسائر المكتسبات المطلوبة قابلة للتحقّق بمحض منحة من الأعلى السلطويّ أو الأعلى الفكريّ، في معزل عن حركة المجتمع التي لا تضمن صحّيَّتها ولا تحميها إلاّ حرّيّتُها. وفي المقابل، تكون ثوريّة الثورة ناقصة حين تستطيع قوى كـ «داعش» و»النصرة» أن تتحوّل إلى أهمّ قواها وأكثرها فعلاً وتأثيراً. وهذا إذا جاز البحث عن بعض أسبابه هنا وهناك، في موقف دوليّ وإقليميّ أو في هجرة جهاديّين أجانب أو في إطلاق سراح تكفيريّين كانوا في السجون، فإنّه لا يُغني عن رؤية السبب الرئيس وهو الاستعدادات المجتمعيّة التي خصّبتها عشرات السنين من حكم أمنيّ رهيب. فالتكفيريّون طاردون تعريفاً للدعم والحلفاء، لا في الخارج فحسب بل أصلاً في الداخل الذي كان آخر ضحاياه دروز قرية قلب لوزة. والتكفيريّون لئن قام خطابهم على أنّنا نحن الأكثريّة، ويحقّ لنا بالتالي أن نفعل ما نشاء، فإنّ تتمّة الخطاب ليست اعترافاً بأنّ الأخيرين أقلّيّات، بمن فيهم السنّة الذين لا يشاركونهم آراءهم. فهم إذاً «أكثريّة» في مقابل لا شيء، أي في مقابل قوى كافرة أو منحرفة مصيرها العادل والمحتوم الموت والاجتثاث. يقال هذا وفي البال الانتخابات التركيّة الأخيرة التي أظهرت بوضوح تنافر مزاج الثورة السوريّة ومزاج الديموقراطيّين والتقدّميّين الأتراك. وإذا كانت اعتبارات عمليّة تتعلّق بوجود السوريّين النازحين في تركيّا، أو ما يتّصل بالحجم العلويّ الوازن ضمن الكتلة التركيّة التقدميّة، من العوامل التي تفسّر التعاطف مع أردوغان، فماذا يقال في هذا التنافر إيّاه بين المزاج العريض للتونسيّين التقدّميّين والمزاج العريض للثورة السوريّة؟ وتركيّا وتونس، كما نعلم، بين أوّل بلدان الشرق الأوسط إطلالاً على الحداثة وعلى النزعة الدستوريّة، ومن أشدّ بلدان المنطقة امتلاكاً لطبقة وسطى ذات تقاليد. لكنّ تركيّا أيضاً تخوض اليوم تجربة ديموقراطيّة شهدت لمصلحتها الانتخابات الأخيرة، وإن كانت المخاوف لا تزال ماثلةً في أفقها، بينما تونس تخوض، هي الأخرى، تجربة ديموقراطيّة ليس مضموناً أن لا تخفق وتنتكس، إلاّ أنّها لا تزال الأنجح في سجلّ ثورات «الربيع العربيّ». وهذا التنافر بين المزاجين مُقلق على الجبهتين، يقول الكثير عن قوّة الثورات المضادّة داخل ثوراتنا الضعيفة، وعن حجم المحافظة داخل تقدّميّاتنا الساعية إلى التغيير. من جريدة الحياة