دد وافر من المعلقين العرب ما زال يتحدث عن الولايات المتحدة حديث بداية النصف الثاني من القرن الماضي، ولم يبلغ النظر وتفسير أحداث العقود الأخيرة حيث الأمور تغيرت، كثيرون يلقون باللوم على الولايات المتحدة، بسبب الأحداث المأسوية في منطقتنا العربية، التي أنتجت عاصفة من الاضطراب وأشاعت الموت، يعتقد كثير من المحللين العرب أن الولايات المتحدة، كان يمكن أن تنقذ الموقف أو تقلل من الخسائر، أو تلجم الصراع، وبعضهم يرى أن ما يحدث هو برغبة من الولايات المتحدة، لسبب غامض، يصل إلى حد الإيمان السرمدي بالمؤامرة، في الحالين ذلك وهم، وقد آن الوقت أن نكف عن هذا الندب غير المجدي، ونعكف على تحليل ما يجري بعلمية لفهم أكثر واقعية كيف تسير الأمور في المستقبل. في دراسة مطولة نشرت في مطلع هذا الشهر في مجلة الـ«تايمز» الأسبوعية، وضعت إشارة لمقالة وحيدة على كل الغلاف لأهميتها، كتب الدراسة آيان بريمير، وهو كاتب متخصص، له كتب منشورة في الشأن الأميركي، أهمها كتاب «الدولة العظمى: ثلاثة خيارات لدور أميركا في العالم» أما المقال فعنوانه «ضاعت في العالم: كيف يمكن للرئيس الأميركي القادم إصلاح الفشل في السياسة الخارجية»، يقول لم تكن السياسية الخارجية الأميركية قضية مطروحة بكثافة في الانتخابات الرئاسية الأميركية إلا مرتين، في عام 1940 وفي عام 1968 في الانتخابات القادمة 2016 تعود السياسة الخارجية إلى مركز الصدارة في المناقشات في السباق الرئاسي، حيث أصبح التنافس على الكرسي الأول يمر بمراجعة الإخفاقات الخارجية المتراكمة. تصريحات المرشحين المحتملين كما يقول الكاتب، تسير في طريق المزايدة، لا الواقعية، ويرى أن سياسة إدارة باراك أوباما ليست استثناء من سابقيه الأربعة على الأقل (ريغان، وبوش الأب، وبوش الابن، وكلينتون)، هي مع قليل من الرتوش، نفس السياسة، وقد تستمر على الأرض مع الرئيس الجديد، ملخصها الانسحاب من الشأن العالمي كلاعب واحد، مع استمرار القول في نفس الوقت إنها الدولة العظمى الوحيدة! الأسباب كثيرة لهذا الموقف المتذبذب تراكمت عناصرها في الربع قرن الماضي، منها العقد التي تسربت إلى الناخب الأميركي من خلال فشل في سلسلة من الحروب الصغيرة والكبيرة، منها فيتنام ولاحقا في كل من أفغانستان والعراق، مرورا بالصومال، المعضلة التي يراها الكاتب تتمثل في كون نتائج السياسات الأميركية المنفذة على الأرض محدودة التأثير، وفي بعضها معاكس للمعلن من الأهداف، إلا أن الرؤساء جميعا، بمن فيهم المرشحون الجدد للانتخابات القادمة، يصرون على (عظمة أميركا، وأنها ما زالت تملك من القدرات ما يؤهلها لقيادة العالم). لقد كان الفشل هو البون الشاسع بين القول والفعل، ينتهي الكاتب بالقول، لقد أصبح من المهم أن ينطبق الفعل على القول، ويعترف الجميع بتلك المحدودية للولايات المتحدة في القدرة على التأثير، وأن هناك شكوكا حقيقية في رغبة وصدقية الولايات المتحدة أثرت في سمعتها. يقترح الكاتب ألا تتشبث الولايات المتحدة بالتبشير (بتصدير القيم الأميركية أو حقوق الإنسان أو الديمقراطية) تلك مثاليات حان وقت إعادة التفكير فيها، لأنها على أرض الواقع قد فشلت! ينصح بأن الوقت هو الاهتمام بالمصالح الأميركية، وليس تصدير القيم الأميركية، كما ينصح ببناء الدولة الأميركية، بدلا من الانصراف لبناء الدول البعيدة، وفي الغالب الفاشلة! إذا قرأنا من جانب آخر مذكرات السيدة هيلاري كلينتون «خيارات صعبة»، يتزامن في الكتاب، الإيمان بقوة أميركا، والاعتراف بعجزها، كدولة وحيدة، عن حل المشكلات العالمية المعقدة. تعترف السيدة هيلاري أنه في المناقشات الأولى مع الرئيس باراك أوباما، وهي بصدد التعاون معه كوزير خارجيته قال لها: «أريد التركيز على الاقتصاد!» لذلك هي تبنت في عملها في وزارة الخارجية ما سمته «القوة الذكية»! ولكن عند إكمال القراءة نجد أن القوة الذكية هي عدم التصدي للمشكلات ابتعادا عن دفع الثمن، بل ومحالة حلها بالاتفاق مع أطراف أخرى حتى غير صديقة تقليديا، تذكر عددا من الأمثلة صادفتها وهي وزيرة للخارجية، أختار منها اثنين، الأول أن كوريا الشمالية أرسلت شحنة سلاح محظور لحكومة بورما العسكرية، تمنع قرارات الأمم المتحدة تزويدها بها، وكانت الشحنة في طريقها البحري دون أن يوقفها أحد، فاستعانت السيدة هيلاري، بعد أن أصبح الأمر محرجا، بالدبلوماسية الصينية، كي تتدخل لإيقاف الشحنة، والمثال الثاني، كما تقول لنا السيدة هيلاري، في فتح باب خلفي للتفاوض مع طالبان، بعد أن تجشمت القوة الأميركية المحاربة الكثير من الضحايا، حتى بعد أن أرسل أوباما 33 ألف جندي إضافي، وفُتح الباب الخلفي بعيدا عن حلفاء أميركا، سواء أكان كرزاي الرئيس الأفغاني، أو الحليف الباكستاني، ونتج عن فتح ذلك الباب الخلفي، إطلاق خمسة من كبار رجال طالبان، ولعل الاتفاق حول الملف الإيراني يسير بهذا التوجه، على أمل استخدام الجزرة بدلا من العصا! لأنه لم تعد هناك إرادة لاستخدم العصا!! مركز الاستقطاب الدولي القادم هو «الحرب ضد الإرهاب» الذي تشكل منطقتنا بؤرته، والرئيس الأميركي القادم إلى البيت الأبيض سوف يضطر إلى بناء تحالف الراغبين لمحاربة «الإرهاب» وهذا يعني أن هناك الكثير من الشد والجذب الذي سوف يتم على تعريف الإرهاب، ومن هم الإرهابيون على المستوى الدولي؟ أيضا بناء التحالفات الجديدة، إلا أن الهدف هو منطقتنا. لن يعود الحكم الأول والأخير على أي من الدول أنها تعتني أو لا تعتني بحقوق الإنسان، سوف يكون المعيار الأول والأكثر أهمية في المستقبل هو الحرب على الإرهاب بصرف النظر عن شكل الحكومة. فالخلافات التي يعتقد بعضنا أنها دائمة بين روسيا والدول الغربية والولايات المتحدة، يمكن أن تتلاشى بل تذوب في تحالف جديد ضد الإرهاب، كما أن الدول التي تتراخى ضد الإرهاب لن تنقذها (صداقة) تاريخية مع الولايات المتحدة، من النقد أو حتى اتخاذ خطوات دبلوماسية حاسمة ضدها. الإشكالية التي تواجه العرب، وخصوصا السنة منهم، هي رسمهم بحاضن أو راع للإرهاب، وهي المعركة التي تدور الآن خلف الكواليس. لأن «داعش» يمتد من بلاد الشام والعراق إلى شمال وغرب أفريقيا وجنوب شرقي آسيا. لعل بعض المؤشرات تعطينا تصورا لهذا السباق الدولي الجديد، مثلا الصراع في اليمن يحاول الحوثيون جهدهم لإقناع من يريد أن يستمع أنهم يحاربون «القاعدة»، النظام السوري يرغب في أن يرسم صورة له أنه ضد الإرهاب حتى لو ساعد «داعش» على التمدد الفعلي، لذلك نسمع تعبيرات تجمع بين (التكفيريين، والقاعديين والمتشددين والسنة) في بوتقة واحدة. ساحة المعركة القادمة في حرب الإرهاب، سوف تقسم الدول إلى أعداء أو أصدقاء من خلال من يدعم أو يغض الطرف عن الإرهاب، ومن يحارب الإرهاب، إلا أن الساحة هي بين ظهرانينا. يطرح هذا المنحى على الدول العربية والقوى المختلفة فيها تحديا، لأن الإرهاب قاعدته الأساسية هي التطرف، والتطرف يمكن أن يلحظ في وسائل الإعلام وفي المناهج الدراسية وفي التعامل الاجتماعي، أي في عناصر الثقافة. والآن يرسم الإرهاب في أذهان كثيرين على أنه (عربي / وفي الغالب سني) بامتياز، المشعوذون وتجار الـ«تويتر» والتلفزيونات لا يفتئون يزحمون الفضاء الإعلامي بتلك النسبة العالية من التوتر المتطرف الذي يؤكد حجة الآخرين للتدليل على كون الإرهاب منطلقا من بيئة واحدة وله شكل ثقافي واحد. أخطر ما يواجهنا هو لصق الإرهاب بمكون وحيد من مكونات مجتمعات الشرق الأوسط، في هذه المكان سوف تدور المعركة الإعلامية/ الدبلوماسية، لأن الأفكار القديمة تموت ببطء في ساحتنا ولا تجد من الشجاعة من يتصدى لها. آخر الكلام: حتى الجماعة في إيران عندما اتخذوا قرارا بعمل إرهابي في البحرين، وجهوا التدريب والتمويل إلى العراق العربي في محاولة لإبعاد الشبهات عن طهران! من جريدة الشرق الأوسط