2015-10-10 

ما الحاجة إلى المثقف

ربيع المجد

تخلق السجالات الثقافية بطبيعتها تجديدا في دماء الحقل الثقافي ، فيظهر في الأطروحات المخالفة نوع من الإجتهاد الذي بدوره يحرك في أغلب الأحيان مياه الفكر التي كانت راكدة . لينتج عن ذلك إغناء للساحة الثقافية، و من هنا يكون المثقف وفيا لدوره المتمثل في الرقي بفكر كل مجتمع ينتمي إليه . على أن المتتبع للشأن الثقافي العربي سيلاحظ أن هناك نوعا من الركود في تناول أطروحات فكرية تستفز العقل سواء المتعاطف منه مع التراث المعتقد بأن أي تجديد هو كفر بماض ، أو العقل الذي يرى أن الحاضر عليه أن يكون المرجعية الوحيدة ، بحكم أبوة العقل للموضوع التي تفرض لزاما إستقلالية الطرح . لكل أمة قضايا ثقافية تهم واقعها السياسي الاقتصادي والاجتماعي والديني . وهي القضايا التي تستأثر باهتمام وكتابات نخبتها الثقافية ، فهي ذات ارتباط عضوي بمسار تاريخي تشكلت عبره وهي في نفس الوقت تؤثر بشكل أو بأخر على المسار المستقبلي بشكل سلبي إن لم تكن قيد الدراسة من طرف نخب كل المجالات الفكرية . لذا و على مر العصور كان المثقف إما جاعلا نفسه في خدمة السلطة كيفما كانت ، أو في خدمة طرح الضمير دون تأثر بغنائم القرب من القصور أو مغرم معارضتها . ولنا في التاريخ العربي أمثلة حية عن ما عاناه بعض المفكرين من مصادرة لما كتبوا بل وفي بعض الأحيان ممارسة نوع من المكارثية على تداول أفكارهم كابن رشد ومحنته ، ولنا كذلك أمثلة عن من هادنوا القصور ففازوا برغد عيش في حياتهم لكن التاريخ لم يجعل لهم في صفحاته من ذكر سوى ذكر محتشم كأنهم مارسوا رذيلة الفكر ، على أني أتحفظ على ذكر أمثلة أو حتى مثال بالاسم فمجرد ذكرهم تشريف لمن لا يستحق شرف . و يذهب افلاطون في كتابه الجمهورية إلى أنه يتوجب على الفيلسوف أن يكون في هرم السلطة ، بل لم يخف ميله إلى أن يكون الملك أو أمير البلاد فيلسوفا أصلا ، وتعريف الفيلسوف هنا كان كناية عن المثقف ، على أن هذا القول ليس سوى نوع من اليوتوبيا التي تفقد ارتباطها بالواقع . غير أن ابن خلدون يخالف افلاطون في تعريفه بدور المثقف والحاجة اليه ، ويَقول في الفصل الخامس والثلاثون في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول "اعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصَاحب الدَولة يَستعين بها على أمر إلا أن الحَاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم لأن القلم في تلك الحال خادم فقط و منفذ للحكم السلطاني والسيف شريك في المعونة و كذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتهما كما ذكرناه ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قذفناه فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين ويكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاهاً وأكثر نعمة وأسنى إقطاعاً وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهد أمره ولم يبقى همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السيوف مهملة في مضاجع أعمالها إلا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة ومما سوى ذلك فلا حاجة إليها فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاهاً وأعلى رتبة وأعظم نعمةً وثروةً وأقرب من السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً وفي خلواته نجياً لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنظر إلى أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون الوزراء حينئذ وأهل السيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السلطان حذرين على أنفسهم من بوادره". يرى ابن خلدون أن علاقة السيف بالقلم علاقة تكميلية ، لا يستغنى احدهما عن الآخر ، فالسيف يدافع عن ثغور الأمة وحدودها ، والقلم يدافع عن هويتها، وأمة لم تحفظ هويتها كانت الأضعف إن واجهها أي خطر . فالمثقف يدافع عن القضايا المركزية والمؤامرات التي تحاك لإضعاف اي امة ،فالغزو الفكري خصوصا في زمننا هذا أضحى اكثر نجاعة من القوة أحيانا. ودوره بالنسبة لابن خلدون يكمن في قراءة الواقع ومحاولة إصلاحه بما يمتلكه من معارف تساعده على رسم مستقبل أجمل لامته أو حتى المساهمة في اغناء الفكر الجماعي لأبنائها . بينما يرى أن المثقف هو من يأخذ على عاتقه نقد كل ما تقوم به الدولة من أخطاء في تدبير شؤون المواطنين ، فالنسبة إليه الدولة تؤسس للقوانين وتجعل لها مؤسسات تحفظ لها تدويلها وفرضها كما تريد ، والمثقف هو من يحمل على عاتقه لجم كل انزلاقات تبتغي من وراءها الدولة إضفاء شرعية على ممارساتها السلطوية ، فهو لا يؤسس لنظريات فقط ، بل هو سلطة فكرية تراقب سلطة عملية . لكن هل تسمح الدولة للمثقف بممارسة دوره في المراقبة والتوجيه ؟لا أظن ذلك فحتى مستوى التطور التكنولوجي ساعد على خلق أنواع من المثقفين يستعيضون عن العمل المؤثر بالعمل السلبي ، فالمثقف في الماضي كان يشحذ همم الناس و يتواصل معهم يخلق لنفسه قنوات تواصلية واقعية وملموسة من هنا يكون التأثير إيجابي . لكن اليوم أضحى المثقف يمتلك أسهل الطرق للوصول الى أي شريحة فكرية، فالتقدم التكنولوجي جعل العالم قرية واحدة ، خصوصا إن لاحظنا حجم إتكال بعض الكاتبين على المواقع التواصلية كأداة لنشر أفكارهم مع ما تخلقه من عجز عن التفاعل الواقعي الذي يؤسس لتغيير واقعي . يذهب نعوم تشومسكي بان المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة ، وهو القول الذي تعضده مقولة غوبلز : كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي . يمكننا أن نعتبر بان المثقف في أكثر الأحيان هو الشخص الغير مرغوب فيه من طرف السلطة . فهو يجعل على عاتقه فضح أساليبها الملتوية إن كانت سلطة متجبرة أو فاسدة . وهو كذلك يقومها عبر جعل أطياف المجتمع تتلمس نواقص بعض مبادراتها . من هنا كان لزاما على المثقف أن يختار أي الأدوار يشاء، دور المهادن المستكين أو دور ضمير وطنه الذي لا يخشى عواقب الصدح بأفكاره . في كتابه " أوهام النخبة أو نقد المثقف " يرى علي حرب بانه يجب على المثقف : "خلق واقع فكري جديد ، بإنتاج أفكار جديدة ، أو تغيير نماذج التفكير ، أو بابتكار ممارسات فكرية جديدة ، أو بإعادة ابتكار الأفكار القديمة على ارض الممارسة وفي أتون التجربة . ". يروقني كثيرا قدرة علي حرب على جعل دور المثقف يتعدى الدور الكلاسيكي ، أي نقد المعاب من ظواهر تسيء للمجتمع ونقد السياسات التي تجعل الأوطان في مأزق الفساد وأتون القمع ، إلى الدور الابتكاري اي خلق الفعل كما يختصر ذلك في قوله أو بابتكار ممارسات فكرية جديدة . وهي أزمة المثقف العربي عموما في حاضر أيامنا . فقبل العشرات من السنين كنا نسمع باطروحات تعصف بالحقل الثقافي كي تجعله شرارة تتقد بطروح فكرية مخالفة او حتى موالية لطرح ما ، وتحضرني هنا تجربة نشر دار الطليعة لكتاب جلال صادق العظم وما كان من سجال حول النقد الديني ومفهوم الحرية والمقدس فالفكر . فالمثقف حتى وإن تبنى رأيا خاطئا أو إحدى القضايا الموضوعة في خانة الحظر ، هو يساهم في إعادة ضخ دماء الفكر بعقائد فكرية جديدة تساعد على إغناء الحقل الثقافي للأمة التي ينتمي إليها . وهذه هي الغاية من الثقافة والمثقفين .

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه