أمة عربية مجزأة أصلاً. دولها تنهار. مجتمعاتها تتفكك. جيوشها ميليشيات. حكامها أمراء حرب. هزائم تتكرر. قضاياها يتولاها غيرها من الأمم والدول. ثرواتها منهوبة. سواعد أبنائها لا تعمل. عقل مثقفيها برسم الإيجار. أفكارها اجترار. شعوبها مسحوقة. تثور ثم تعود إلى حيث انطلقت. الحدود بين أقطارها تترسخ. تديرها أجهزة رقابة وإرشاد غبية. المنع سيد الأحكام. دينها تحريم. حرياتها معدومة. المباح مقلص. العلم الوحيد ما يستنبط من إملاءات الماضي. العلم الحديث لا مراكز للبحث فيه. صحراؤها تتوسع. زراعتها تكاد تكون معدومة. صناعتها تفنيص. والسلسلة تطول. أين الخطأ؟ سؤال طرحه العلامة الشيخ عبد الله العلايلي منذ عقود ولم نستطع الجواب عليه. قبله سأل الأمير شكيب إرسلان عن الأسباب التي جعلت الغرب يتقدم والشرق يتأخر. بين هذا وذاك أفنى ياسين الحافظ عمره القصير في البحث عن جواب والتنبيه من خطر انهيار العقلانية. بعده مات الياس مرقص والمرارة تملأ نفسه لأنه رأى وهو على فراش الموت أحوال الأمة أسوأ مما كانت عندما بدأ النضال قبل نصف قرن. برّأ القضاء المصري حسني مبارك وأولاده وزبانيته، فكأنهم غير مسؤولين عن شيء مما حصل. الأنكى أن المناضلين الأحرار حكموا بالسجن، وبعضهم مدى الحياة. ولبنان الأكثر ديموقراطية، نكتشف فيه أن ما نأكله نخجل من تسميته، فنقول إن لدينا مناعة كافية. تتنوع الأحوال في الأقطار العربية الأخرى، على منوال «تنوعت الأسباب والموت واحد». يتطلب التحليل جرأة كبيرة. أما تحديد السبب فهو مغامرة. لا بد من ذلك. في الأيام الأخيرة صرخ الأزهر الشريف داعياً إلى تقتيل وتحريق وتقطيع أوصال البغاة؛ هؤلاء هم برابرة «داعش» وأخواته. يفعل أهل «داعش» جرائم يندى لها الجبين. ويكون الرد بأقوال المعتدلين التي لا تختلف عن أفعال المتطرفين. وعي واحد. ما هو هذا الوعي المشترك؟ من قال إن الأزهر الذي يطالب بتطبيق حد البغاة اليوم لن يطالب بتطبيق الحدود الأخرى في المستقبل، وصولاً إلى فرض الجزية؟ كأنه يطالب بتطبيق الشريعة. تحتل وعينا السماء. نهمل شأن الأرض. عقلنا في الآخرة. لا قيمة لهذه الحياة. مرضاة السماء ولا مرضاة الشعب. ننسى أن للسماء رباً يحميها، وأن الأرض هي ما يحتاج إلى عناية. تحتاج هذه العناية إلى عقل، ويحتاج العقل إلى عقلانية، والعقلانية إلى وعي. وعينا يتوجه إلى الآخرة، إلى ما لا يمكن معرفته، ويهمل شؤون الأرض، وهي ما يمكن معرفته. وعينا في السماء ولها. الأرض منسية. نحن آخر الشعوب في معارف العلم الحديث. علوم دينية كثيرة، والعلم الوحيد المطلوب هو علم ما في الطبيعة والمجتمع. في كل ما نقوله نحتاج إلى سند من تراث عظيم. لكنه قديم؛ وما عاد يصلح للعصر. التبعية للماضي هي سر التبعية لإمبراطورية نشعر بوطأتها ولا ندرك سر عظمتها؛ عظمة فرخت على أطرافها إسرائيل. كيف يمكن لهذا الكيان الصغير أن يلغي عقلنا؟ لا فرق بين الاعتدال والتطرف لدينا. الوعي واحد. وعي يسكن في الماضي، ويهمل شأن الأرض والطبيعة والحاضر. وعي منسلخ عن الحاضر ولا يستطيع استيعاب المستقبل ولا صنعه. وعي يشل الإرادة. ويلغي السياسة. لدينا أنصاب ولدى الغرب أنصاب. منذ أيام قام نائب شمالي لبناني بالدفاع عن نصب في مدينة طرابلس. في الغرب أقام رئيس محكمة ولاية ألاباما نصباً للوصايا العشر. لديهم مقاتلون في سبيل الله ولدينا مقاتلون في سبيل الله. الفارق هو أنهم يصنعون أسلحتهم ونحن لا نصنع شيئاً. لديهم بنية اجتماعية تميز بين الأرض والسماء، وتهتم بالأولى كما بالثانية؛ نحن نهتم بالسماء دون الأرض. إيغالاً في التفسير، يمكن القول إن السبب الأعمق هو أن السماء وهبتنا منحة من باطن الأرض؛ هي النفط ومفاعيله. توهمنا أن ذلك ثروة فبادلنا السماء بعناية فائقة. حالتنا الذهنية والاجتماعية والاقتصادية هي ما يستدعي المعالجة في غرفة العناية الفائقة في مستشفى المرض الفكري. ولا شفاء إلا بانحسار الإيديولوجيا الدينية؛ والعودة إلى عروبة علمانية، حيث الدين تجربة روحية فردية روحية.. من شاء فليؤمن، ومن شاء ديناً آخر كان له ذلك. لا تستقيم الأمور إلا بفصل الدين عن السياسة، فيعطى الدين حقه، وتتأسس السياسة على المصلحة. *من جريدة السفير اللبنانية