زيارة الأمير محمد بن سلمان وليّ وليّ العهد، وزير الدفاع السعودي لروسيا، لم تنتظر طويلاً لتُعطي بواكير ثمارها. فقد أعلن الأمير إثر لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود سيزور روسيا في القريب العاجل تلبية لدعوة من رئيسها. هذه النقطة المبكرة التي جرى تسجيلها خلال زيارة لا بد من وصفها بالتاريخية، أعطت إشارة واضحة عن النجاح الذي باشرت الزيارة بتحقيقه، والأهمية العالية لما أقدمت عليه المملكة في سياق نهضتها الحالية على مختلف المستويات الخارجية والداخلية. فالرياض التي تخلّت عن مقعد المراقب الناصح دخلت مباشرة في يداً فاعلة في الأحداث البارزة، وبطريقة غير مسبوقة، ما يؤكد على ولوج المنطقة وبالتالي العالم، مرحلة جديدة في سياق تناغم القوى الكبرى وتفاهمها ورسم حدود أكثر ثباتاً لمصالحها، ضمن بوتقة الاعتراف المتبادل بالمصالح واحترام موازين القوى والفعل والتأثير. منذ عشرينات القرن صحيح أن العلاقات السعودية الروسية تحتفظ بماضٍ مشرق وبنّاء حيث كان الاتحاد السوفياتي أول دولة غير عربية تعترف بالمملكة الناشئة لدى تأسيسها في العام 1929. إلا أن التقارب الحالي الذي تقوده المملكة مع روسيا يأتي في وقت له دلالاته الأساسية الهامة أيضاً. فقد بلغت أزمات الشرق الأوسط نقطة حساسة ومفصلية، وبات التقارب الايراني - الاميركي في الملف النووي يطرح تساؤلات عميقة حول مفاعليه المفترضة على توازن العلاقات التاريخي في المنطقة والعالم، وتأثيره على العلاقات الايرانية – الروسية، وبالتالي على الحراك العربي عموماً والسعودي خصوصاً في انطلاقته الراهنة. الهمّ الاقتصادي المشترك كان المهيمن على مباحثات اللقاء بين الطرفين، لكن الحوار لم ينحصر في هذا المجال بل تطرّق كما هو متوقّع إلى مختلف الملفات الإقليمية الساخنة، من تفاقم الأوضوع في سورية واليمن إلى التطورات الحاصلة في العراق والإنسداد القائم في لبنان، وكل ذلك على خلفية المدّ المتطرّف الذي بات الهمّ الشاغل لمختلف القوى الإقليمية والعالمية. وبالطبع فإن الاستياء السعودي من سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما في منطقة الشرق الأوسط، كان في طليعة أسباب التقارب السعودي الروسي، إلا أن اتجاه الرياض إلى بناء علاقات واعدة مع قطب عالمي آخر، غير الولايات المتحدة الأميركية، لا يقوم البتّة على حساب علاقتها التاريخية الوثيقة مع واشنطن. فالسياسة السعودية لا تتخلّى عن مبادئها الأساسية، ولا تغامر بقرارات غير محسوبة، بل هي عُرفت على الدوام ببقائها على ثوابتها ووضوح الرؤية أمامها. وكما أنه بإمكان الروس بناء علاقة طيبة مع العربية السعودية، وفي الوقت نفسه مع إيران أيضاً، كذلك من الطبيعي للرياض أن تكون على علاقة طيبة مع مختلف القوى التي تحقق لها مصالحها، سواء كانت في واشنطن أم في موسكو، من دون أن يؤدي ذلك إلى أي خلل في علاقاتها مع كلي الطرفين. فما يقود سياسة المملكة الخارجية هو ما يضمن لها مصالحها من دون أن يمسّ بقيمها السياسية ولا بمصالح حلفائها. من جهة أخرى فإن التفاهم القائم والمتطوّر بين المملكة وروسيا، هو بالغ الأهمية بالنسبة إلى البلدين يؤدي إلى تعزيز العلاقات ورفعها إلى مستوى غير مسبوق، مع ضمانه تحقيق مصالح اقتصادية وتكنولوجية تستفيد منها المملكة من باب أولى، كل هذا من دون أن يعني أن أيّاً من البلدين يسعى لاستبدال شركائه التقليديين في مختلف مجالات التعاون السياسي والاقتصادي والصناعي والعسكري القائمة. المملكة "دولة فضائية" والحقيقة أن المملكة أبدت اهتماماً بمشاريع الطاقة في العالم، وأيضاً في روسيا، وهو ما أكّده وزير الطاقة الروسي الكسندر نوفاك، مشيراً في تصريح له أن اللجنة السعودية الروسية المشتركة للتعاون التجاري الاقتصادي والعلمي التقني، سوف تستأنف عملها في تشرين الأول/أكتوبر القادم بعد توقف عملها 5 سنوات. كذلك فالمملكة مهتمة اليوم كما في الأمس بتطوير إمكاناتها في علوم الفضاء، كما في ميادين الزراعة وضمان مستوى مريح لأمنها الغذائي السعودي، مع تحقيق عائدات استثمارية شبه مضمونة. هذا بالإضافة إلى اهتمامها بتطوير التعليم وتعزيز الشراكة مع روسيا في هذا المجال، وامكان رفع عدد المبتعثين إلى روسيا إلى 500 مبتعث في العام المقبل. وفي المحصّلة جاء حصاد زيارة الأمير محمد بن سلمان وليّ وليّ العهد لروسيا، ناجحاً بكل المقاييس، وأثمر توقيع ستّ اتفاقيات تعاون مشتركة عالية المستوى، ووجرى خلالها البحث في التعاون مع روسيا على بناء وتشغيل 16 مفاعلًا نوويًا في المملكة لتوفير الطاقة من هذا السبيل. كذلك عُلم أن وكالة الفضاء الروسية "روس كوسموس" تخطط بالتعاون مع "مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية" لتنفيذ مشاريع في مجال تطوير البنية التحتية الفضائية على أراضي السعودية، بما يلبّي اهتمام الرياض في إنشاء أسس القطاع الفضائي السعودي وصياغة البرنامج الفضائي الوطني، على ما أفادت قناة "روسيا اليوم". أزمات وحلول وفي تعليق أدلى به الباحث السياسي السعودي الدكتور أنور ماجد عشقي، قال "إن روسيا بدأت تعطي اشارات انها ستقف مع الشعب السوري بعدما كانت تقف مع بشار الاسد، مما سيسهل كثيرا في تقرير الحل السلمي في سوريا. وهذا الامر انعكس على الولايات المتحدة الاميركية التي اخذت تطالب مجلس النواب بمنطقة عازلة فوق سوريا، كما بدأت تظهر اصوات في اوروبا منها صوت المبعوث الدولي دي مستورا، الذي قال انه لا بد من ايقاف البراميل المتفجرة ضد الشعب السوري"، ليخلص إلى القول: "الآن ادركت روسيا انه لا يمكن الخلاص من داعش الا باستقرار سوريا". مجمل هذه الأمور السياسية البارزة، إضافة إلى الملفات الاقتصادية والتكنولوجية الهامة، كانت في جعبة الأمير محمد بن سلمان وليّ وليّ عهد المملكة خلال زيارته الهامة لروسيا. وقد عاد سموّه بنتائج أكثر من باهرة لمحادثاته مع الروسي الأول، ما لا بد أن تظهر تباشيره في المستقبل القريب، ليس فقط من خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود لروسيا، بل أيضاً من خلال النتائج العملية التي لا بد أن تظهر على الأرض، في المملكة أولاً على الأصعدة الاقتصادية والزراعية والتكنولوجية، وفي مختلف بؤر التوتر المشتعلة في المنطقة، من سورية إلى اليمن ، مروراً بالعراق ووصولاً إلى لبنان، ما يعد بغدٍ أفضل لشعوب هذه البلدان ولمستقبلها، ويثبت البصمة العربية السعودية في مسارات وحلول الأحداث الجارية في المنطقة والعالم.