2015-10-10 

اللحظة الفاشية

عبدالمنعم السعيد

«اللحظة الفاشية» مثلها مثل «العاصفة الكاملة» حالة تعبر عن فترة زمنية تمر مثل لمح البصر في تاريخ الشعوب والأمم، ولكنها فيها تتقرر نهاية فترة من الانقلابات والزلازل والأعاصير؛ باختصار فترة لا يعود فيها التحكم في الأحداث ممكنا، ولا يعود فيها النظام - أيا كان بشريا أو ماديا - إلى نقطة من التوازن، إلا بعد درجة كبيرة من العنف والدمار. وتاريخيا فإن «اللحظة الفاشية» جاءت إلى العالم بعد تغيرات كبرى أثارتها على سبيل المثال «الثورة الفرنسية» وتوابعها من الحروب النابليونية وظهور الحركات العمالية والاشتراكية، فكان رد الفعل اتجاها بدأ محافظا، ولكنه انتهى عنصريا ضد الأقليات في داخل الدول الأوروبية من ناحية، وضد دول العالم «غير البيضاء» من ناحية أخرى، وفي النهاية نشبت الحرب العالمية الأولى لعلها تعيد إلى العالم بعضا من العقلانية. وجاءت اللحظة الفاشية مرة أخرى مع ثلاثينات القرن الماضي حينما أفلست «عقلانية» عصبة الأمم، وانسحبت أميركا إلى ما وراء محيطاتها، وتخمرت مرارات الحرب وما نتج عنها من تسويات، ولكن الأهم أن الأفكار العنصرية التي تولدت في القرن التاسع عشر سرعان ما وصلت إلى أوجها في إيطاليا ثم اليابان ومن بعدهما ألمانيا في صورتها النازية. أخيرا وصلت اللحظة الفاشية إلى الشرق الأوسط بعد عقود كثيرة من الاضطراب والفشل والحروب التي خرجت من الحرب العالمية الثانية، ومعارك الاستقلال، والانقلابات العسكرية، والثورات ذات الألوان المتعددة، بينما العالم كله يتغير تكنولوجيا وتسليحيا بسرعة لم يعرفها البشر منذ فجر الخليقة. انفجر الشرق الأوسط بعد عهد الثورات التي عرفت بالربيع العربي، وتولد عن الانفجار تلك اللحظة الفاشية التي شهدنا فيها ما بين كتابة مقال الأسبوع الماضي ومقال الأسبوع الحالي تفجيرات متعددة تجسد اللحظة وتشهد عليها. في تونس جرى الهجوم على ساحل سوسة حيث تم القتل البارد لسائحين من جنسيات متعددة مع مستضيفيهم من التونسيين؛ لم يرحم تونس أن ربيعها جاء معتدلا، وأنها استقرت في النهاية على نظام ديمقراطي، وأن «العلمانية» فيها لها جمهور أكثر من الدول العربية الأخرى، وأنها نسبيا من دول «الستر» العربية. استيقظت تونس على دمار أكثر وسائل دخلها أهمية، ومع الدمار كانت الصيحات حول الإجراءات الاستثنائية، والقانونية والأمنية لردع المعتدين. وكأن ذلك لم يكن كافيا حتى جاء دخول الانتحاري إلى جامع للشيعة في الكويت الغنية؛ والهدف واضح كما كان مع مجزرة جامعين سابقين في المملكة العربية السعودية وهو خلق الفتنة بين السنة والشيعة. لاحظ هنا أن الهجوم جاء في شهر رمضان، ولم يُستثن منه يوم جمعة ولا سبت، ولا رجال أو نساء أو أطفال؛ وتجمع ذلك كله في هجمات شديدة ومتنوعة على أهداف كثيرة في مصر شملت الكثير من المحافظات، وكان أكثرها دويا ما حدث في سيناء. في البلدان الثلاثة صمدت الدولة، وجاءت لحظات للوحدة الوطنية، ولكن اللحظة الفاشية لا تأتي في واقعة، أو هدف واحد، وإنما في شكل موجات للبحر عالية تضرب ثم تعاود الضرب حتى يتفكك الشاطئ ويدمر الميناء. الأمثلة واضحة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ومع اختلاف في الدرجة، فإن تعبيرات مثل الدول الفاشلة أو اللادول على الإطلاق باتت حقيقة كاملة. هذه الموجات تعبر عن أربعة أنواع من التحديات: الأول تحدي الموت في مواجهة الحياة، فالأصل في الوجود الإنساني هو الحياة حتى يقضى أمر الله في عمر الإنسان؛ أما أن يصير ذلك رهنا بإرادة أخرى تتخيل بإمكانية فرض ذلك على البشر فهو جوهر التعصب العنيف، الذي لا يعتد بأي معنى بالحياة الإنسانية حتى وهي تمارس وتنفذ أوامر إلهية بالصوم والصلاة. لاحظ، وكل الأمور الآن صارت مرئية، أنه لدى «داعش» أو «القاعدة» وكل الجماعات المماثلة أن لحظة القتل يكون فيها القاتل على درجة عالية من النشوة والسعادة. هؤلاء لا يوجد لديهم أنه كتب عليهم القتال وهو كره لهم، وإنما هو مطلب تزداد سعادة المرء بالمزيد منه. كافة الشهادات التي جاءت عبر الوثائق عن معسكرات الاعتقال النازية شهدت بتلك الحالة من «النيرفانا» التي يصل القاتل إليها ساعة القتل أو بعدها؛ وفي حالتنا فإنه لا يجد غضاضة في أن يلعب الكرة برأس إنسان ذبح توا. والثاني تحدي الخراب في مواجهة التنمية، لأن الأصل في حياة البشر هو إقامة العمران في الأرض؛ ولكن اللحظة الفاشية تنطوي على العكس الكامل لهذا القول. وسواء كان ما نتحدث عنه هو خطوط الكهرباء في مصر، أو مناطق أثرية مثل الكرنك في الأقصر أو تدمر في سوريا، فإن «الحضارة» قديمها وحديثها هي الموضوع. العجيب في الأمر أن الجماعة الفاشية لديها نوع كبير من الصلف الذي يدعي أنه يأتي لإنقاذ البشر مما وقعوا فيه من ضلال، وما وصلوا إليه من ظلم، فتكون النتيجة وباستخدام العنف، هي قتل هؤلاء المطلوب إنقاذهم، أو تدمير وسائل معيشتهم، أو إجبارهم على العيش في ظل ظروف مذلة. والثالث تحدي الغريزة في مواجهة العقل، وكانت هذه هي حالة المواجهة التي تعبر عن «اللحظة الفاشية» التي تأتي لكي تعطي السيطرة والهيمنة للغريزة ومشاعر الكراهية والمقت والبغضاء؛ مع قدر هائل من الاحتقار لكل ما هو مختلف أو متنوع. في الحالة الفاشية فإن الفاشي يتلبس تلك الحالة «الحيوانية» التي تعتري «المتحولين» في الأفلام السينمائية التي يتحول فيها البشر إلى ذئاب متوحشة، أو إلى كائنات من نوع جديد تحب الدماء ولا تخشاها. هي الغريزة ذاتها التي تسبي النساء، وتستعبد المسيحيين، وتسترق الرجال، وتنفث بالحقد والبغضاء والكراهية كل ما عرفه التاريخ من فصول قبيحة. ورابعا تحدي الخوارج للدين الإسلامي ذاته، حيث بدأت جماعة الإخوان «المسلمين» بإعادة تركيب الدين الإسلامي بالطريقة التي تتيح لجماعة سرية - تماما كالخوارج في عصر الفتنة الكبرى - أن تشعر بالتفوق الفكري والعنصري على كل من عداها. ومن رحمها على مدى العقود الستة الماضية، بدأت قوافل من «الفاشيات» الجديدة في الظهور من أول «الجماعة الإسلامية»، وحتى تلك الجماعات «الجهادية» والتي لا تصارع المجتمع والدولة العربية والإسلامية فقط، وإنما أيضا فيها من ضيق الأفق، وربما الرحمة بالمسلمين، في الصراع فيما بينها. الأمر الذي يجب ألا ينسى هو أن «الفاشية» في النهاية يتم هزيمتها، ولكن الثمن يكون فادحا.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه