عندما يرحل قائد أو عزيز ينبري الكثير من النظراء والزملاء والمُحبين والمتعاطفين للكتابة نعياً وتأبيناً، والتعبير عما يجول في خواطرهم وما تمليه مشاعرهم الفياضة وفاءً لعلاقة ماضية وذكرى خاصة، وغالباً ما يكون الإطراء مُرتبطا بمحاسن الراحل الشخصية وهذا من جميل الوفاء والعرفان وقول الحق، وشخصياً تشرفت بنعيه عبر صحيفة نيورك التايمز الجمعة الماضية واختصرت «كان سعود الفيصل في دبلوماسيته مُحافظًا وهادئًا ومنطقيًا، ولم يكن مُتسرعًا أو عاطفيًا في مواقفه السياسية». تقييم رحيل الأمير سعود الفيصل يبدو مختلفاً بالنسبة لي وربما للكثير ممن يهتمون بالسياسة الخارجية والدبلوماسية السعودية وهذا ليس فقط بسبب وزن وحجم تأثير الراحل محلياً وخليجياً وعربياً ودولياً وإنما بسبب «الخسارة المؤسسية والمهنية» والتى تعرضت لها السياسة الخارجية السعودية وحتى الخليجية والعربية وربما الإسلامية، وذلك نظراً لأن الراحل كان جزءًا لا يتجزأ من أساس ولب ومسيرتها منذ أربعة عقود شهد فيها العالم والشرق الأوسط أحداثا تاريخية جساما ومنها على سبيل المثال الثورة الإيرانية والحرب العراقية- الإيرانية والغزو العراقي للكويت وانهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء بأحداث الحادي عشر من سبتمبر والغزو الأمريكي للعراق وانتهاء بموجات الثورات العربية. مثل سعود الفيصل امتداداً طبيعياً للمدرسة الدبلوماسية الأولى والتى بدأها «الأمير» فيصل بن عبدالعزيز العام 1919م عندما قام بأول مهمة خارجية له ونيابة عن والده الملك عبدالعزيز فزار بريطانيا تلبية لدعوة رسمية من الملك جورج الخامس بمناسبة الانتصار في الحرب العالمية الأولى، ثم تولى مسئولية العمل الخارجي في 21 نوفمبر 1930م بعد صدور مرسوم بتحويل مديرية الشؤون الخارجية إلى وزارة الخارجية واستمر حتى العام 1960م حيث تولى الشيخ إبراهيم السويل الوزارة وحتى العام 1962م حيث عاد «الأمير» فيصل وزيراً للخارجية واستمر الأمر بعد توليه المُلك في الأول من الثاني من نوفمبر 1964م وحتى استشهاده -رحمه الله- في 25 مارس 1975م. اتسمت الدبلوماسية الفيصلية بصفات يُمكن للمتخصص تحديدها وتوصيفها وكان من أهمها المثابرة والجدية والصراحة والوضوح والذاكرة الحديدية والأدب الجم مع الحفاظ على الهيبة والقسوة إحيانا عندما يتعلق الأمر بالمصلحة الوطنية، ومن الثوابت أن الملك فيصل ثم الأمير سعود كانا يرفضان مبدأ «الدفع المادي لشراء المواقف السياسية أو الإعلامية»، وحصل الاثنان طوال ما يقارب 85 عاماً على عشرات المواقف التاريخية من دول وقادة لصالح المملكة لمجرد قدرتهم الاستثنائية على الإقناع والحضور والتضحية ويمكن القول إن «الدبلوماسية الفيصلية» امتازت بامتزاج رأسمال سياسي ودبلوماسي سعودي ذي سحنة حجازية وهذا كان نتيجة طبيعية لبقاء وزارة الخارجية في جدة حتى العام 1405هـ/ 1985م. مثل الأمير سعود الفيصل مظلة دبلوماسية منعت الكثير من الأزمات والحروب وغطت على أخطاء الكثير وهذا يشهد له من عمل معه عن قُرب. والوفاء للأمير سعود الفيصل لا يكون فقط في الإشادة به بل محاولة السير على خطا عمله الشخصي والدبلوماسي والذي عكس الوطنية فعلياً قبل أن تكون قولاً وكان يعمل ويعمل دون انتظار ثناء من أحد أو إطراء من إعلام أو مدح ممن عجب. أحد الأسباب التى تجعل خسارة سعود الفيصل لا تعوض هي أنه كان جزءا لا يتجزأ من أسرار وذاكرة وواقع وممارسة وتاريخ السياسة الخارجية والدبلوماسية السعودية ورحيله سيعني غياب واختفاء كنز من القيم السياسية والاسرار والذكريات والتى لم يتسع وقت الأمير الراحل لنقلها أو لم ينجح بعض المؤثرين عليه في توثيقها شفهياً أو كتابياً. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته... من موقع اليوم