2015-10-10 

سائق تاكسي لم يقرأ «الماغنا كارتا»!

سليمان جودة

في واحد من أيام شهر يونيو (حزيران) الماضي، أخذت تاكسيًا لقضاء مشوار سريع في وسط القاهرة، وما إن جلست إلى جوار السائق حتى بدأ كأغلب زملائه في العاصمة المصرية يشكو من الأحوال ومن ظلم الأيام! هذه المرة، كانت الشكوى مختلفة، لأن صاحبها بدا أمامي، في لحظة، وكأنه واحد من المُنظرين الكبار، الذين يضعون إطارًا واضحًا للأفكار، قبل أن يطلقوها بين الناس! كان كل ما يشغل بال الرجل أن القانون كفكرة ليس موضع احترام واجب في المجتمع، وأن احترامه كفيل وحده بأن يجعل البلد ينتظم في أموره، كما تنتظم الساعة السويسرية في حركتها! وكان تقديره أن المواطنين من حيث اجتراؤهم على القانون، واعتداؤهم على حرمته، ينقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ قسم يحتال على القانون بالمال.. وقسم آخر يحتال عليه بالنفوذ.. ثم قسم ثالث لا عنده مال، ولا عنده نفوذ، فلا يجد أمامه طريقة للاحتيال على القانون، سوى الفهلوة! ولأني أعتقد دومًا أن على كل الذين ينتقدون سوء أوضاعنا أن يقدموا لنا حلولاً لما ينتقدونه، وأن يطرحوا أمامنا البديل، فإنني سألته عما إذا كان يرى حلاً في الأفق لهذه المعضلة. وكأنه كان جاهزًا.. إذ راح يشرح لي على الفور أن القسم الثالث من المحتالين على القانون يمثل الجزء الأكبر من حيث عدد أفراده، لأن الذين لا يملكون مالاً ولا نفوذًا، في أي مجتمع وليس في المجتمع المصري وحده، هم الغالبية في العادة، ولأنهم غالبية فإن صلاحهم صلاح للدولة بأسرها، وهو صلاح، أو إصلاح، لن يأتي من تلقاء نفسه، ولكنه في حاجة إلى خطة، وفي حاجة إلى برنامج عمل! أما برنامج العمل الذي يتصوره فهو أن يتوقف المحتالون على القانون بالفهلوة، عن فهلوتهم، ولن يتحقق ذلك بدوره إلا إذا توقف أصحاب المال وأصحاب النفوذ، لأنهم في النهاية يمثلون القدوة، ولأن آحاد الناس، من أفراد القسم الأكبر، يحتالون في حياتهم اليومية على القانون، ليس حبًا في الاحتيال ولا رغبة فيه، ولكن لأنهم في الغالب يتشبهون بالأعلى، ويقلدونهم ويفعلون فعلهم، وقد يسيرون في هذا الطريق كله من أجل الاحتيال في حد ذاته، وليس لأنهم في حاجة إليه! أدهشني أن يكون سائق تاكسي لديه هذا التصور النظري على الأقل لما يؤمن به، وقد وجدته منطقيًا في ما يقول، لسببين؛ أولهما أني فهمت منه، في نهاية كلامه أنه خريج جامعة، وأن ضيق فرص العمل قد ألجأه إلى العمل سائق تاكسي، وثانيهما أن كنس السلم، كما قيل دائمًا، إنما يتم من أعلى، لا من أسفل! ولأمر ما، وجدتني أربط بين ما سمعته منه وما كنت قد قرأته قبلها بأيام عن وثيقة «الماغنا كارتا» الإنجليزية. لقد احتفل الإنجليز، طوال يونيو 2015، بمرور 800 سنة على صياغة الوثيقة وكتابتها، ومما تناثر عنها هنا مرة، ثم هناك مرات، فهمنا أنها صيغت في 15 يونيو 1215، وأن عدد كلماتها يصل إلى أربعة آلاف تقريبًا، وأنها كانت عند وضعها من 13 نسخة، وأن أربعًا فقط هي التي بقيت، وأن الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا قد زار المكتبة البريطانية في لندن ليشاهد المعرض الذي أقيم بهذه المناسبة، وأنه راح يتفحص واحدة من النسخ الأربع باهتمام، وأن الوثيقة كانت تتحدث عن ثلاثة أمور لا رابع لها، وأن هذه الأمور هي: الحق في الحياة بالنسبة للمواطن الإنجليزي وقتها - ثم بعدها طبعًا - والحق في الملكية الخاصة، ثم الحق في عدم الاعتقال أو السجن، إلا في إطار القانون، وأن الهدف الأول والأخير من صياغتها، في زمانها، أن يمتثل ملك انجلترا وقتها للقانون، شأنه شأن أي مواطن إنجليزي آخر، لأنه لا أمل في نهضة لأي أمة ما لم يكن القانون فيها سيفًا على رقاب الجميع! على سبيل القطع، فإن سائق التاكسي لم يسمع بوثيقة «الماغنا كارتا» ولم يقرأ عنها، ولكنه كان يتكلم بروحها وهو يتكلم، وكان يقول ما يعني أن فطرة الإنسان في أنحاء الدنيا واحدة، وأن الذي كان المواطنون الإنجليز يحلمون به، في عام 1215، هو ذاته الذي يتشوق إليه مواطن مصري عابر في شارع من شوارع القاهرة الفاطمية، في سنة 2015! قد يتوق الإنسان إلى زيارة المكتبة البريطانية، ليتفرج على تلك الوثيقة العتيقة، وقد يحب أن يلقي نظرات عليها، وقد يحب أن يتأملها، وأن يسترجع ظروف صياغتها، ولكنه ربما لا يكون في حاجة إلى أن يقرأها، كنص، لأن كلمات سائق التاكسي العابر، وكلمات غيره من آحاد الناس، تقول إن الله قد خلقنا بينما روح «الماغنا كارتا» منقوشة على صدر كل واحد فينا! جريدة الشرق الأوسط

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه