في 30 يناير (كانون الثاني) نقلت وكالة الأنباء السعودية عن الناطق الإعلامي لشرطة المنطقة الشرقية أنه «عند الساعة الثانية من ظهر يوم الجمعة تعرضت سيارة يستقلها شخصان من الجنسية الأميركية، أثناء سيرها على طريق صلاح الدين الأيوبي بمدينة المبرز بمحافظة الأحساء، لإطلاق نار من مصدر مجهول». وأضاف المتحدث بأنه قد نتج عن الحادث «إصابة أحدهما ونقله إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم، وحالته الصحية مستقرة». وردا على سؤال أحد الزملاء عن سبب وجود أميركيين في منطقة الأحساء أجبت على الفور: وهل هذا سؤال؟ بالطبع كانوا يدرسون «الثقافة الإحسائية»! لا تستغربوا، فقد كان هذا الجواب هو الذي تلقته شرطة مملكة البحرين من 6 شباب أميركيين قُبض عليهم بعد الاشتباه بهم قاموا باستئجار شقة في قرية الدراز، قرية شمال المنامة وهي منطقة ينشط فيها الإرهابيون من التيار الشيرازي، ذات التيار الذي ينشط في العوامية في السعودية، فقالوا إنهم كانوا هناك «ليدرسوا الثقافة الدرازية»! مع شديد احترامي لأهالي المنطقتين وشديد احترامي لثقافتهما التي يجب أن تدرس، وهي ثقافة حافلة بالموروثات العلمية والتراثية، إنما الربط للحادثتين مردّه تطابق في مواطن الشبه، أصبح هناك ارتباط شرطي الآن بين الإرهاب والأميركان، فحيثما توجد اضطرابات في أي مكان عربي ابحث عن الأميركي! لم يعد وجود الأميركيين في مناطقنا السكنية يمر مرور الكرام من بعد 2011 كما كان يمر سابقا مرورا كريما، مرورا لا يستوجب التوقف عنده، وهذه واحدة من الخسائر التي منيت بها العلاقات البشرية الإنسانية العربية الغربية والتي ظلت في منأى عن التجاذبات السياسية وصراعاتها، وبقيت تلك الروابط الإنسانية التي تجمع الأضداد خيطا يحفظ للإنسانية موقعا وأرضية مشتركة تعود بالنفع على الحضارة البشرية دون اعتبار للون أو الجنس أو الدين أو العرق، أفسدتها الدوائر الاستخباراتية الأميركية التي أقحمت مواقع كان يجب أن تظل في منأى عن تدنيسها بتحميلهم مسؤولية مهام قذرة لعملاء دستهم تسببوا في تهاوي الدول ووقوع ضحايا بشرية. لم يكن لوجود أي أميركي مدني في أي بقعة بحرينية أو خليجية أو عربية أي مشكلة قبل مشروع الشرق الأوسط الجديد، ظلت علاقتنا كعرب وخليجيين مع الشعب الأميركي من أروع ما يكون، فهم شعب ودود محب للغريب لأنه أصلا تشكل من مجموعات بعضها غريب عن بعض وغريب عن الأرض التي استوطنوها وعمروها، شعب خليط من أعراق وأصول وإثنيات متعدد الديانات وكثير منه بلا ديانات، شعب لا يستوحش الغريب، شعب محب وشغوف بالشرق عموما عربيا كان أو آسيويا، يسحره الإنسان الشرقي بأساطيره التي غفت عيون أطفاله على رواياته، شعب ألهمه لحن شهرزاد لكورساكوف في «الأريبيان نايت» ويعرف «آلاء الدين» أكثر من معرفتنا بعلاء الدين وبساطه السحري، وقد يحفظ التواء أزقة «باقداد» أكثر من معرفتنا بأزقة بغداد. كانت أميركا تتصدر قائمة وجهة السياح العرب وجامعاته تتصدر قائمة طلبتنا الدراسية وكثير ممن عاش بين الشعب الأميركي نقل لنا تجاربه وارتباطه العاطفي مع سحر الولايات المتحدة الأميركية الجاذب في شعبها المضياف الخلوق، كما أن الأميركيين نجحوا في جذبنا لأسلوب حياتهم البسيطة (الكاجوال) في لباسهم ومأكلهم ومشربهم، سحرتنا أفلامهم ومسلسلاتهم، أحببنا «أوبرا وينفري» أكثر منهم وتابعنا حفل اعتزالها وبكينا لمغادرتها مسرحها، بل إننا آمنا بقيمهم ومبادئهم الدستورية التي صاغها آباؤهم في دستورهم الأول، إيمانَ الحالم بيوم تسود فيه العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان عندنا كما كتبت في وثيقتهم. كانت أرضهم أرض أحلامنا، حلمنا أن يكون لنا تخطيط مثل تخطيط مدنهم ومواصلات كمواصلاتهم ونظام حياة كنظامهم، فلا عجب بعد هذا أن نرحب بهم أينما حلوا بيننا، طلبة كانوا يدرسون ثقافتنا، أو سياحا يزورون قلاعنا ومتاحفنا، أو ضيوفا يحلون في بيوتنا المضيافة شغوفين بالفلاح منا والبدوي والشيشة والجمل العربي. غضضنا الطرف عن تحيزهم لإسرائيل وغضوا الطرف هم عنا كشعوب بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وبقيت العلاقة الشعبية على أفضل وأحسن ما يرام. إلى هذه الدرجة كانت رغبتنا في استمرار العلاقة بيننا كشعوب، علاقة شغف تجمع بين الاثنين ورغبة في الارتباط والتفاعل الحضاري، إلى أن جاء ما سمي «الربيع العربي» ففسدت تلك العلاقة الإنسانية حين وظفوها لخدمة مشروع تقسيمي ندفع ثمنه الآن من أمننا ومن استقرارنا. صُدمنا وصُعقنا وما زلنا مصدومين، سذاجة؟ ربما.. لكنهم «تآمروا» على من تبقى من مؤيديهم في عالمنا العربي من الليبراليين والنساء والمثقفين والمؤمنين بـ«النموذج الأميركي» (أميركان أيدل). فقدت الشعوب العربية الثقة، حينما كشف عن تحالف الإدارة الأميركية مع الجماعات الإسلامية الشيعية والسنية المتطرفة دعما ذهب إلى أبعد الحدود غير الأخلاقية من أجل «إنجاح» مشروعهم، لطخوا سمعة كل مشاريعنا الإنسانية المشتركة، معاهد مشتركة فتحناها للدراسات الشرقية الأميركية لتكون لنا جسرا يقلص الفارق الزمني والجغرافي، جندوا فيها مدرسين ومدرسات، حتى من كانوا أمناء على أطفالنا في حضاناتنا جندوهم، وجيش من خبراء واستشاريين كانوا بيننا بألف غطاء وغطاء، بعضهم خبراء اقتصاديون وبعضهم خبراء تخطيط وبعضهم خبراء رياضة وإعلام، دسوا عملاءهم في حقول إنسانية بحتة لتسهيل مهامهم فأفسدوا الصندوق كله حين كشفت الأجهزة الأمنية في الدول العربية التي جرت فيها الاضطرابات المسماة بـ«الربيع العربي» عن دور كثير منهم في أحداث البحرين وأحداث مصر، تركوا حاجاته وأخذوا ما خف منها وهربوا بعد كشف الغطاء عنهم أثناء الأزمة، هكذا فسدت العلاقة، لم نعد نثق بأي منهم، نتحدث إلى أحدهم وكلنا شكوك وعدم ثقة، نسلم عليهم فنعد أصابعنا، لذا فإننا في البحرين ضحكنا ضحك طفلَيْن معًا وعَدَوْنا فسبقْنَا ظِلَّنا حين أجاب الأميركيون الذي سكنوا في قرية الدراز البحرينية عن سبب وجودهم في مكان حافل باضطرابات أمنية أنهم هنا «لدراسة ثقافة الشعوب»! حقا؟ ولا تريدوننا أن نضحك حين نسمع في ذات الأسبوع عن أميركيين آخرين يجوبان الأحساء، الت فعلوا فيها الإرهابيون ما فعلوا؟ حتى لو كانوا أبرياء، مَن سيصدقهم؟ البريء منهم كالنجار الذي استدعته سيده ليصلح لها خزانة غرفة نومها التي تهتز كلما مر القطار لأن بيتهم كان ملاصقا للسكة الحديد، وحين فحص النجار الخزانة وجدها سليمة، فاقترحت عليه السيدة أن يدخل الخزانة ويرى بنفسه كيف سيختل توازنها حين يمر القطار، فَقَبِل، وفي هذه الأثناء عاد الزوج إلى المنزل وفتح الخزانة ليجد رجلا غريبا داخلها، فسارع النجار قائلا للزوج: هل ستصدقني إذا قلت لك إنني هنا أنتظر القطار؟!! *نقلا عن جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية