هل كان أحرى بنا أن نطلق على هذه السلسلة «مسافرو الصيف» بدل «الرحّالة»؟ أو في صورة أدق: «مسافرو العرب»؟ إنهم، في الحقيقة، رحّالة «هواة»، لم يكرّسوا العمر كله لهذا العمل، غير أن ما تركوه لنا يفوق أحيانا الاحتراف. يبدو لك ذلك فورًا عندما تستعرض كتابات الدكتور محمد حسين هيكل، أحد أعلام النهضة، وأوائل الحقوقيين المصريين القادمين من جامعة السوربون، والمشارك في وضع أول دستور مصري عام 1923، ومؤلف «زينب»، التي اعتبرت أول رواية عربية بالمعنى الأكاديمي. تقبع مأساة عائلية عميقة وراء أسفار الدكتور هيكل. فقد أعد لرحلة كبرى مع زوجته في شرق أوروبا وغربها ليضع كتابًا بعنوان «خلال أوروبا». لكنه في هذه الأثناء، فقد ابنه محمود، وصار الهدف من الرحلة تنسية زوجته بعض الحزن الهائل الذي ألمَّ بالوالدين. غير أن النتيجة الأدبية للرحلة كانت انطباعات تاريخية عميقة من كل مكان مرَّ به الدكتور القانوني ووزير المعارف ورئيس التحرير والروائي. وصدر كتاب رحلاته بعنوان «ولدي» عام 1927 بدل «خلال أوروبا». يحتار المرء ماذا يختار في هذا العقد الذهبي. وقد اخترت بداية رحلته التي بدأها في حلوان إلى الإسكندرية (3 أيام) ثم اليونان، ثم تركيا. وأتوقف عند عبوره مضيق الدردنيل إلى البوسفور، فظاهر الآستانة، أو إسطنبول: «الآستانة – القسطنطينية – بل، أستغفر الله، استامبول، فذلك هو الاسم الذي قصره الأتراك على المدينة القديمة بعد ظفرهم الأخير، وبعد نقلهم عاصمة ملكهم إلى أنقرة. استامبول وما حولها هو مدخل البوسفور. هذا البوغاز البديع الجمال الفذ من بين ما أبدعت الطبيعة من أمثاله، الفذ بموقعه، وبتاريخه، وبما شهد من تطورات، وبالحركة السياسية والاجتماعية التي تدور اليوم حوله. الآستانة مدخل لا يقل عن البوغاز نفسه جمالاً ولا عظمة في الموقع الجغرافي، وفي التاريخ، وفي التطور السياسي. تخطت الباخرة مرمرة إلى البوسفور وإلى الآستانة على مهل، كأنما تريد أن تمتع ركابها بكل هذا الجمال، أو كأنما بُهرت هي أيضًا، رغم مرورها به عشرات المرات. ووقفنا نحن نحدّق إلى ظاهر المدينة القديمة العظيمة، التي أصبحت غير عاصمة، والتي شهدت حكم الرومان وبيزنطة وعظمة النصرانية، ثم اقتحمها محمد الفاتح، فأقر فيها حكم المسلمين وجعلها خلفاؤه من بني عثمان مستقر خلافة المسلمين حتى أجلاهم الأتراك عنها، وثلوا عرشهم منها، وتركوها اليوم مدينة سقط منها تاج الخلافة واسم العاصمة، ثم بقي لها رغم ذلك كله، جمال الطبيعة وعظمة التاريخ. وقفنا نجتلي عروس البوسفور تتدرج مبانيها صاعدة من مياهه، مرتفعة فوق التلال السبعة التي بناها عليها قسطنطين، كي تضارع المدينة الخالدة والتلال السبعة التي بنيت عليها، لتكون كما كانت روما عاصمة الدنيا قوة وحضارة. وتتدرج هذه المباني لتندلع من خلال قباب مساجدها المآذن، ذاهبة في السماء، ينادى من فوقها للصلاة كلما آن موعد الصلاة. ومن حول المساجد، هابطة نحو البوسفور، تبدو سقوف وتبدو أبواب هي منازل المدينة، وتبدو، خلال السقوف وخلال الأبواب، قصور تشرف كلها على البوسفور، تلاطم جدر بعضها مياه البوغاز البديع، ويرتفع بعضها فوق الجبال كأنه منارة تهدي السفن، أو حصن يحمي المدينة من عدوان هذه السفن». إلى اللقاء..