«ثورة 23 يوليو» التي قادها جمال عبد الناصر في مصر العام 1952 كانت من حيث الموقع الجغرافي في بلدٍ يتوسّط الأمّة العربية ويربط مغربها بمشرقها، وكانت من حيث الموقع القارّي صلة وصلٍ بين دول افريقيا وآسيا، وكانت من حيث الموقع الزمني في منتصف القرن العشرين الذي شهد متغيّراتٍ واكتشافاتٍ كثيرةً في العالم وحروباً وأسلحةً لم تعرف البشرية مثلها من قبل، كما شهد القرن العشرون صعود وأفول ثوراتٍ كبرى وعقائد وتكتّلات ومعسكرات... وشهد أيضاً اغتصاب أوطانٍ واصطناع دويلات! كذلك، فإنّ ثورة 23 يوليو، من حيث الموقع الفكري والسياسي، كانت حالاً ثالثةً تختلف عن الشيوعية والرأسمالية، قطبيْ العصر الذي تفجّرت فيه الثورة، فقادت «ثورة 23 يوليو» ثورات العالم الثالث من أجل التحرّر من كافّة أنواع الهيمنة وبناء الاستقلال الوطني ورفض التبعية الدولية. ولم نكن كعرب في فترة عبد الناصر (ولسنا كذلك الآن طبعاً) نعيش في ظلّ دولة واحدة ليكون الفرز العربي على أسس سليمة بين المتضرّر والمستفيد عربياً من وجود التجربة الناصرية وأفكارها وأعمالها. فصحيحٌ أنّ جمال عبد الناصر كان قائداً عربياً فذّاً ومميّزاً، لكنّه كان إضافةً لذلك حاكماً ورئيساً لشعب مصر. فبينما عرفه العرب غير المصريين بدوره كقائد تحرّر قومي، عرفه شعب مصر كحاكم يحكم من خلال أجهزة وأشخاص، فيهم وعليهم الكثير من الملاحظات والسلبيات، رغم ضخامة حجم الإنجازات الكبيرة التي تحقّقت للشعب المصري نتيجة الثورة. ويخطئ كثيرون حينما لا يميّزون المراحل في تاريخ تجربة 23 يوليو الناصرية أو حينما ينظرون إلى السياسة التي اتّبعها جمال عبد الناصر وكأنّها سياقٌ واحد، امتدّ من عام 1952 حينما قامت ثورة 23 يوليو إلى حين وفاة ناصر عام 1970. فلقد قامت ثورة 23 يوليو بواسطة جبهة «الضباط الأحرار» وليس من خلال حزب أو تنظيم موحَّد الفكر وأسلوب العمل، وما قاله جمال عبد الناصر عن كيف أنّ الثورة بدأت من دون «تنظيم سياسي ثوري» ومن دون «نظرية سياسية ثورية»، يوجِد تفسيراً لما وصلت إليه مصر والأمَّة العربية بعد وفاة جمال عبد الناصر، حيث فقدت الجماهير العربية اتصالها مع القائد بوفاته، ولم تكن هناك بعده أداة سياسية سليمة في مصر تحفظ للجماهير دورها السليم في العمل والرقابة والتغيير. أيضاً، مع غياب ناصر/القيادة، وغياب البناء السياسي السليم، أصبح سهلاً الانحراف في مصر عن المبادئ، والتنازل عن المنطلقات، والتراجع عن الأهداف. كذلك أحاطت بالتجربة الناصرية ظروف داخلية وخارجية معيقة لحركة «ثورة 23 يوليو»، كان أبرزها حال التجزئة العربية والتعامل مع الشعوب العربية إمّا من خلال الحكومات أو بأجهزة المخابرات المصرية، وفي ظلِّ حربٍ باردة بين المعسكرين الدوليين، حيث تركت هذه الحرب بصماتها الساخنة على كلّ المعارك التي خاضها عبد الناصر. كذلك، فإنّ ساحة وحركة وأهداف ثورة 23 يوليو الناصرية كانت أكبر من حدود موقعها الجغرافي المصري.. فقد كانت قضاياها تمتدّ لكلّ الساحة العربية، وأيضا لمناطق أخرى في افريقيا وآسيا. لذلك، فإنّ «23 يوليو» بدأت ثورةً مصرية، ونضجت كثورة تحرّر عربية وعالمية، ثمّ ارتدّت بعد وفاة ناصر إلى حدودها المصرية. ومن المهمّ إدراك أنّ السياسة العربية لمصر في فترة حكم عبد الناصر كانت مرتبطةً بالمراحل والظروف المتغيّرة رغم القناعة المبدئية بالعروبة لدى القيادة الناصرية. فثورة 23 يوليو حصلت عام 1952 دون أيّ ادّعاء بالعمل من أجل أيّ قضيةٍ عربية، وكانت الأهداف الستَّة للثورة المصرية الّتي أُعلنت حين قيامها خاليةً تماماً من أي موضوع عربي، وتمحورت جميعها على قضايا داخلية مصرية. ولم يظهر البُعد العربي واضحاً في ثورة ناصر إلاّ بعد تأميم قناة السويس ثمَّ العدوان الثلاثي (البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي) عام 1956 على مصر. فبعد هذه السنوات القليلة من عمر الثورة المصرية ظهر الالتفاف الشعبي العربي الكبير حول القيادة الناصرية، واشتعل تيّار القومية العربية في أرجاء البلدان العربية كتيّار مرتبط بمطلب الاستقلال الوطني والتحرّر من الاستعمار وامتلاك الثروات الوطنية، في مرحلةٍ كانت معظم دول العالم الثالث فيها تعاني من الاستعمار الأجنبي ومن تحكّم الشركات الأجنبية بالثروات الوطنية. وكانت صرخة ناصر:«ارفعْ رأسَك يا أخي، فقد ولّى عهد الاستعباد والاستعمار»، صرخةً مدوّية كان صداها يتفاعل في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، فكانت دعوةً من أجل التحرّر والحرّية، وقد حرّكت وأنهضت الشارع العربي كلّه من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. لكن عقد الخمسينات الذي تميّز بمعارك التحرّر الوطني والاستقلال وبانطلاقة التيّار القومي العربي، تعرّض لنكستين كبيرتين في مطلع عقد الستينات وأواسطه، وانتهى هذا العقد بوفاة من قاد هذه المعارك التحرّرية، ومن أضاء في القرن العشرين شعلة العروبة. النّكسة الأولى، كانت بحقّ الجمهورية العربية المتحدة حيث قادت جماعة انفصالية في سورية حركة الانفصال عن مصر يوم 28/ 9/ 1961، ثمَّ جاءت النّكسة الثانية يوم 5/ 6/ 1967 حيث جرت هزيمة حرب يونيو وما نتج عنها من متغيّرات كثيرة في مصر والمنطقة العربية. وفي النكستين، كان ناصر مثالاً في المسؤولية وفي الحرص على العروبة. فلقد رفض عبد الناصر استخدام القوّة العسكرية ضدَّ حركة الانفصال السورية رغم مشروعية وقانونية هذا الحق، ورغم أنّ دولاً عديدة استخدمت القوة العسكرية للحفاظ على وحدة كيانها السياسي. أمّا هزيمة عام 1967، فقد أعلن ناصر تحمّله المسؤولية الكاملة عنها واستقال من كلّ مناصبه الرسمية، ولم يعد عن هذه الاستقالة إلاّ بعد يومين من المسيرات الشعبية العارمة التي شملت مصر ومعظم البلاد العربية، ثمّ كانت هذه الهزيمة سبباً مهمّاً لإعادة النظر في السياسة العربية لمصر الناصرية، حيث وضع جمال عبد الناصر الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل المعركة مع العدوِّ الإسرائيلي. وكانت هذه السياسة المصرية هي سمة السنوات الثلاث التي تبعت حرب 1967 إلى حين وفاة عبد الناصر. فقد انطلقت هذه السياسة من قناعة بأنّ التحرّر من الاحتلال يقتضي أقصى درجات الوحدة الوطنية في الداخل، وأعلى درجات التضامن والتنسيق بين الدول العربية. وها نحن الآن في الذكرى 63 لثورة 23 يوليو، نجد أنّ مصر تغيّرت، والمنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد في عموم المجالات متغيّراتٍ جذرية... لكن رغم كلِّ تلك المتغيّرات يستمرّ الحنين العربي إلى حقبة الكرامة والعزة والتوحّد، ويتواصل الأمل بعودة مصر إلى موقعها العربي الريادي الذي كرّسته «ثورة يوليو» ولم تتمّ بعدَ جمال عبد الناصر المحافظة عليه. * مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن Sobhi@alhewar.com