مزيج من اللامبالاة و»السينيكية» وجرعة مفرطة من المشاعر الطائفية والمظلومية المعممة، تفوح رائحته في الشوارع. كانت هذه حصة لبنان من الثورات العربية التي طرحت مسألتي الكيان والمجتمع على نحو أشد مما يبدو في الدول العربية التي عاشت الثورات وعاينتها. لا تكفي جريمة قتل ضابط في الجيش على قارعة الطريق لتحرك خوف المسيحيين مثلما خافوا قبل ايام على اثر مقتل رجل منهم بسكين في وضح النهار واعتبروا ان ثمة مخططاً لتهجيرهم من المشرق. ولم تعنِ دماء المقدم الشيعي شيئاً لـ «المارد السني» الذي انتفض بعد تسريب أشرطة تعذيب المعتقلين الإسلاميين في سجن رومية. ولم تغضب الثنائية الشيعية المتنفذة للمطالبة بالعدالة للضحية ذلك انه لم يسقط في واجب «جهادي» ولا في دفاع «مقدس». لقد انضم المقدم ربيع كحيل الذي ارداه مسلحان لم يعجبهما توقفه قرب قريتهما، الى قوافل المنسيين من جنود يحتجزهم تنظيما «النصرة» و»داعش» منذ عام بالتمام، ومن مواطنين يقضون نحبهم سريعاً على طرقات الموت المباحة لأقوياء الميليشيات الطائفية او بطيئاً بأمراض وجراثيم تبعثها نفايات تسببت بها ميليشيات الفساد. يتفكك لبنان أمام اعين ابنائه الذين لا يبدون أي اهتمام جدي بمصير هذا البلد. تفاقمت العلل وازدادت على نحو بات جلياً معه ان ما من حل قابل للتنفيذ، سواء على مستوى انتخاب رئيس للجمهورية أو على صعيد حل كارثة النفايات، حل يتجاوز منطق التسويات الموقتة والحلول القابلة لانفجارات أسوأ من الأزمة ذاتها. وقع لبنان في طلاق عميق قد يكون نهائياً بين عجز النظام عن تجديد ذاته وبين أزمة الكيان الذي تتداعى اطرافه ومؤسساته وتصعد فيه الهويات الفرعية، المناطقية والطائفية. يظهر أن الجغرافيا لا تريد هذا البلد ولا التاريخ قادر على التعرف عليه. ثمة ما بات عاجزاً عن العمل والإنتاج واجتراح حلول لمشكلات الحياة اليومية التي تبرز في البلاد الأخرى. ثمة ما يتجاوز ازمة النظام الطائفي. الكيان لم يعد ذا معنى لسكانه الذين يخسرون كل يوم المزيد من مكونات تعريفهم كشعب وكمجتمع. شكلت الثورات العربية ومآلاتها الحزينة ضربة قاضية لآخر محاولات إنقاذ الكيان اللبناني الذي كان يترنح منذ 2005. لم يشهد لبنان ثورة على اراضيه على عكس دول «الربيع العربي» ونجح بفضل توافقات إقليمية ودولية غير مكتوبة في تجاوز الآثار المباشرة للثورة السورية وتقليص كمية العنف الداخلي الى الحد الأدنى. بيد أن الثورات هذه والتي مثّل ذروتها إلغاء الحدود اللبنانية - السورية بفعل تدفق آلاف المقاتلين للانخراط في الحرب السورية، كشفت تخلع الوطنية اللبنانية واضمحلالها. وجاءت أزمة النفايات الأخيرة لتقول ان المركز الرمزي للوطنية هذه، أي العاصمة بيروت، لم يعد يجد من يتبرع بتحمل اعبائه وأن الوقت قد أزف للرد على اهمال مزمن وسط شعور عام بلا جدوى الانتماء الى وطن تقوم الهيئات الأهلية فيه بأكثرية مهمات الدولة، من الاستشفاء الى الدفاع. فتتعزز هوية الطوائف والمناطق وتختفي هوية الوطن. ولا أدلّ على ذلك من استسلام اللبنانيين الى قدرية تلفها روائح الفساد وحرائق النفايات في ليل طويل تتقلص فيه ساعات التغذية الكهربائية فيما تلعلع تصريحات سياسية بلا هدف ولا صدى.