الدين كجزء من المجال الثقافي، خاضع للتأثير والتأثر بصورة دائمة. بمعنى أن الأفكار الدينية وأنماط التدين ليست صلبة وثابتة، بل تتشكل وفق ظروف مختلفة. في هذا السياق نفسه، يمكن التأكيد على أن مراكز التأثير الثقافي تتغير أيضاً. فعلى سبيل المثال، كانت اليابان إمبراطورية مهيمنة في منطقتها، وثقافتها سائدة بقوة وسطوة السلاح. اليوم تجد أن الثقافة اليابانية مهددة بسطوة العولمة، حتى إن الثقافة الكورية لم تكتفِ بالتمدد في تلك المنطقة عبر الأفلام والمسلسلات والأغاني وألعاب الفيديو..الخ بل امتدَّ تأثيرها إلى مناطق قصية من العالم، شملت العالم العربي. تبدو هذه الفكرة بدهية، أعني مسألة التأثر والتأثير المتبادل، وتغير المراكز الثقافية، لكن تحت وقع ظروف معينة تاريخية يتم تجاهلها لمصلحة سرديات بائسة. لنأخذ في هذا السياق النظرة إلى جزيرة العرب. لأسباب تاريخية تتعلق بعدم تعمق الدولة في وسط جزيرة العرب، تم تعميم هذا على كل الجزيرة، المساواة بين فكرتين مختلفتين: غياب السلطة المركزية وغياب التحضر. فغياب الدولة في نجد لا يساوي أن المنطقة كانت بادية يؤمها رعاة الإبل. فالقبائل العربية استوطنت تلك المنطقة قبل الإسلام بقرون. كما أن جزيرة العرب لم تخلُ من وجود سلطات مركزية في الحجاز والأحساء وجنوب جزيرة العرب، ومن هنا اعتبار أن الدولة كانت غائبة تماماً في المنطقة لا يعدو عن كونه مغالطة تاريخية. الأمر الآخر، إن تحضر البشر، بمعنى التحول من حالة البداوة والتنقل، إلى حالة الاستقرار، واعتماد التجارة والزراعة كأنماط اقتصادية، ليس أمراً مرتبطاً بوجود الدولة. فغياب الدولة لا يساوي غياب الحضارة. بل يمكن أن يكون وجود دولة عبئاً من ناحية تحجيم حريات الناس وتقييدهم، لذا كان المهاجرون البيض إلى «العالم الجديد» يحرصون على الهروب من الدولة في أميركا الشمالية، فكانوا ينزحون غرباً كلما زادت قوة الدولة في الشرق، باعتبار الغرب أرضاً بعيدة عن قهر السلطة. في العالم العربي، ولأسباب تتعلق بنشأة الدولة في جزيرة العرب والصراع السياسي بين الملكيات والجمهوريات العربية، راجت سرديات عدة تحكم نظرة العرب بعضهم لبعض. وأعني تحديداً هنا النظرة إلى جزيرة العرب، السعودية على وجه التحديد باعتبارها الأكثر تأثيراً في منطقتها، والأكثر محافظة سياسياً. حكمتْ نظرة العرب لجزيرة العرب سرديتان؛ الأولى تؤكد انتشار أنماط محافظة من التدين السلفي أثرت في العالمين العربي والإسلامي، ولاسيما مصر. وهنا يشار تارة إلى دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وتارة إلى ما يعرف بـ«الصحوة» والتي كانت متأخرة إلى ما بعد منتصف السبعينات الميلادية. السردية الثانية تفترض أحد أمرين: إما غياب أي تأثير للعرب في المنطقة، أو تبسيط هذا التأثير ليظهر باعتباره مجرد حضور لمعلمين قدموا إلى السعودية ودول الخليج، من أجل المساهمة في بناء المؤسسات التعليمية في المنطقة. لن أتحدث هنا عن انتشار دعوة الشيخ محمد عبدالوهاب وحضورها في العالم الإسلامي، فهو أمر واقع. لكن سأتحدث عن «الصحوة» التي جاءت منتصف السبعينات الميلادية وأثرت في دول عربية وإسلامية مختلفة خارج جزيرة العرب، ولاسيما مصر، باعتبار أن الصحوة لم تكن منتجاً نجدياً خالصاً، كما يحاول بعضهم أن يروج له، ففضلاً عن أن الفاعلين في تلك الفترة من الدعاة والمشايخ كانوا ينتمون إلى مناطق مختلفة من السعودية، كان تأثير المنظِّرين المصريين حاضراً وبقوة. ولاسيما أفكار جماعة الإخوان المسلمون، وهذه قصة مشهورة تتعلق باستقبال الإخوان في المملكة خلال حقبة المد الناصري لمواجهة المشروع القومي، والتي انتهت إلى وجود تأثير مهم وحاسم لهؤلاء في الحالة الفكرية في المملكة. من هنا لم يكن هناك تصدير باتجاه واحد لنمط تدين سلفي إلى مصر -على سبيل المثال- بل كان هناك استيراد لأفكار جديدة من مصر تتعلق بالحاكمية وجاهلية المجتمع ومحاربة التغريب وارتباط هذا بمناهضة الاستعمار ثقافياً في منطقة لم يكن فيها الاستعمار متجذراً كحال مصر. أما النقطة الثانية المتعلقة بتأسيس التعليم في جزيرة العرب فلا تخلو من نظرة رومانسية. صحيح أن انتشار التعليم النظامي رافقته حاجة إلى كوادر تعليمية عربية جاءت طلباً للرزق في هذه الدول الناشئة. إلا أن هذا لا يعني أبداً أن العلم كان غائباً عن المنطقة. فجزيرة العرب لم تخلُ يوماً من حواضر علمية عريقة، ولاسيما في الحجاز والأحساء وأجزاء من نجد وجنوب جزيرة العرب. من هنا كان اقتران البداوة والجهل والتطرف في الخطاب الهجائي لجزيرة العرب لا يتجاوز كونه يكشف جهل من يردد هذه الكليشيهات في تاريخ المنطقة، وبقاءه أسيراً لصور كاريكاتورية وُلدت وُكررت في إطار شتائمي، حكمته منافسات سياسية في المنطقة. فجزيرة العرب تأثرت كما أثرت بمن حولها، وكانت حاضرة لقبائل عربية مختلفة منذ آلاف السنين. كما أن غياب الدولة لم يعنِ أبداً غياب المجتمع، بكل ما فيه من حراك وفاعلية. من جريدة الحياة