أواصل الحديث عن الجامعات العربية بعدما عجزت جميعها عن دخول قائمة الـ500 جامعة الأولى في العالم، وبالكاد دخل بعضها اليسير جداً إلى قائمة الـ1000 وفق التصنيف الذي نشرته «الحياة» بالتفصيل الأسبوع الماضي. في الدول العربية ذات الإمكانات الاقتصادية المحدودة يقولون: «لكي نستطيع اللحاق بركب العلم والتكنولوجيا والمنافسة في التقدم الحضاري العالمي، تجب زيادة الإنفاق في مجال التعليم والبحوث وتوطين العلم في معاهدنا وجامعاتنا». في الدول العربية الغنية يتم الإنفاق كثيراً، لكن النتائج، على رغم جودة بعضها أحياناً ونادراً، لا تزال محدودة، ولا تزال هذه الدول عاجزة عن إنتاج التقنيات العالية مثلاً في كثير من المجالات، أو تلك السلع التي يهيمن استهلاكها على العالم في مجالات الإلكترونيات أو الأدوية، وغيرها كثير. تُرى ما هي قدرة وإمكان الجامعة، أيّة جامعة، على إحداث تغييرات في المجتمع وتحديثه وعصرنته؟ وما هي قدرة المجتمع بدوره على تحديث وعصرنة الجامعة؟ هل الحديث عن دور الجامعة في التنمية شأن مبالغ فيه؟ وهل صحيح أن الروح الأكاديمية ضعيفة وأسيرة ميكانيكية روتينية ثابتة في الأداء؟ هل المشكلة في الطلاب كما يدعي الأكاديميون الذين تخرج بعضهم في هذه الجامعات نفسها؟ الأكاديميون ربما قالوا إن الجامعة وفرت المكتبات، ومعامل البحث العلمي، والطلاب ربما أجابوا أنها مكتبات ضخمة بكم كبير، ونوع ضعيف أو مكرر، والمعامل تدار بعقليات تطبق أنظمة مكتوبة أو متعارفاً عليها، تكبح جماح المغامرات العلمية، وتفتقد روح المبادرة، بل تخشى من العقاب الإداري في حال سمحت لطالب «شاطح» أن يطبق نظرية تجول في خاطره. يبدو أننا إزاء خلل يتعمق مع الزمن في الذهنية العلمية البحثية وإجراءاتها المعيارية، ولا بد أن تتغير مفاهيمنا التقليدية نحو العلم ودوره في الحياة، فقد أدى غياب «المفهوم التاريخي لنظام العلم» كما يسميه بعضهم، لأن (المؤسسات التعليمية العربية تنزلق إلى المحاكاة والتقليد والقفز إلى نهايات العلوم من دون وجود أرضية يُرتكز عليها للاستفادة من هذه النهايات ومن دون أن تكون لذلك صلة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي)، والأهم الإنتاجي للعلوم والتقنيات التي تنتهي إلى منتوجات وسلع، وما بين هلالين مقتبس من قراءة قديمة نسيت اسم صاحبها. تم في كثير من الدول العربية «تطوير» المجتمع من خلال استيراد أحدث ما أنتجته أسواق التكنولوجيا من أجهزة ومعدات وأنظمة، لكننا في غالبنا وبضعف جامعاتنا ومعاهدنا ومعاملنا نتجاهل القواعد الفكرية التي استندت إليها هذه الإنجازات العلمية، فوصلنا أو نحن بقينا، إن صح الوصف والتشخيص، في موقع العجز عن توظيف الفكر في استقصاء المضامين العلمية للظواهر الإنتاجية وظواهر تقدم المجتمع من خلال آليات العلم والتكنولوجيا. إن تجارب بعض البلدان التي كانت حتى القرنين الماضيين تشابهنا واقعاً حضارياً واقتصادياً وإنتاجياً في اتكالها على الآخرين، الغرب هنا تحديداً وقليل من الشرق، ثم ارتقت إلى مصاف الدول المتقدمة، وأفضل تسميتها "المنتجة" لأن الإنتاج محدد أساسي للتقدم، إن هذه التجارب تدعو إلى التأمل، ولأن الحديث عن الجامعات والبحث العلمي، فلا بد أن نركز هذا التأمل ليس على جمال طبيعتهم، أو كثرة ذكرهم عند التحسر على عدم إنتاجنا، بل على جامعاتهم وأنظمتهم الأكاديمية، والروح التي فيها. جريدة الحياة