يقول الدكتور مصطفى محمود عن رحلته لغدامس: من نافذة الطائرة كانت تبدو الرمال المترامية بلا حدود تلمع في وهج الشمس كقميص من الذهب تعلو فيه التلال كنهود مكورة خمرية في رسم سيريالي خرافي من تلك الرسوم التي يرسمها سلفادور دالي. وكنت غارقًا في أحلامي أتتبع هذه اللوحة الأسطورية حينما تيقظت على يد رفيق في الرحلة الأخ علي المصراتي «الكاتب الليبي المعروف». وسمعته يقول بصوت قلق: هل أحضرت في حقيبتك كل اللوازم؟ إن بها كل ما أحتاج إليه من هدوم. ورأيته ينفجر ضاحكًا: هدوم.. هه الحقيبة المنفوخة كلها هدوم؟ هل تعرف أن درجة الحرارة في غدامس خمسون درجة في الظل.. هل سمعت النشرة الجوية؟ قلت وقد بدأت أتصبب عرقًا: على أي حال، لا بد أني سأجد دشًا في الأوتيل. هناك أدشاش بعدد ما تريد. ولكن المياه ملحة وتشقق الجلد. أعوذ بالله. هل سنشرب من هذه المياه الملحة؟ يمكنك أن تشرب مياهًا غازية مصنوعة من نفس المياه الملحة. على أي حال هي مياه مفيدة للصحة فيها حديد ونحاس وزئبق! وزئبق كمان؟ هذا يعني أننا سوف نموت بالتسمم. سوف تتعود. الظاهر أننا سوف نتعود على أشياء كثيرة. ولكنك طبعًا أحضرت معك المصل! أي مصل؟ وهنا قفز صديق من كرسيه في انزعاج. المصل المضاد للعقرب والثعبان.. هل نسيته؟ والواقع أني كنت قد نسيت تمامًا، وقلت وأنا أحاول أن أطمئن نفسي: وهل هناك عقارب وثعابين وعناكب وحيات؟ نحن نازلون في قلب الصحراء الأفريقية! ولكننا سوف نسكن في أوتيل وننام في غرفة يمكن أن نقفل بابها وشباكها علينا. سننام في غرفة صحيح، ولكنك لن تستطيع أن تقفل بابها من الحر إلا إذا كنت تريد أن تموت مسلوقًا. وراح يضرب كفًا بكف: كيف ننسى احتياطًا طبيًا كهذا؟ وأنا معتمد عليك باعتبارك طبيبًا؟ وارتفع أزيز الطائرة ذات المحرك الواحد وراحت ترتفع وتنخفض في المطبات الساخنة كأنها ريشة في مهب الرياح وغرق المصراتي في سكوت قلق. قلت وأنا أحاول أن ألتمس كلمة مطمئنة: ولكن هناك مستشفى على أي حال أو مركز إسعاف في حالة ما إذا.. وكان الترمومتر في المطار يشير إلى درجة 45. ولكن الحرارة كانت محتملة بسبب الجفاف الشديد. وكان كل شيء جافًا نظيفًا ساخنًا. الأرض والجدران والمقاعد والأبواب. ولكن الهواء كان صافيًا نقيًا معقمًا كأنه خارج من أتوكلاف، وكان يدخل الصدر فيغسله. شعرت بالانتعاش على الرغم من شدة الحر. ولكني كنت ما زلت أفكر في العقارب. وحينها التقينا بمتصرف المنطقة الشيخ ونيس الدهماني.. (المتصرف في مقام المحافظ عندنا). كنت ما زلت مشغولاً بحكاية العقارب.. وكنت أفكر في الطريقة التي أسأله بها. وأمسك بيدي يشد عليها في حرارة: «كيف الحال؟ إن شا الله تكون مرتاح.. كيف الحال عندكو في مصر؟»، ونظرت إلى الرجل المديد القامة.. كان وجهه الصريح وملامحه الحادة القوية والسمرة النبيلة التي تكسو وجهه تحكي قصة كفاح طويلة مع الصحراء ومراس متصل مع المشقات. وكانت عيناه تتدفقان طيبة وبساطة. وقلت له إن الأحوال بخير في مصر. ودعوته لزيارتنا ولقضاء الشتاء على ضفاف النيل. إلى اللقاء..