ما قام به الطيران الحربي المصري من ضربات لمعسكرات ومعاقل «داعش» في ليبيا كان آتياً لا محالة، حتى لو لم يقم الإرهابيون بذبح واحد وعشرين عاملًا مصرياً، لكن هذا الحادث الأليم أعطى تلك الضربة شرعية وأكسبها تعاطفاً ووفر لها غطاء من الرضاء الإقليمي والدولي كانت القاهرة في حاجة ماسة إليه، وهي تتابع تنامي الإرهاب واستفحاله في ليبيا واقترابه من الحدود المصرية. وحتمية الضربة تلك كانت تنبع من ثلاثة أمور تسبق حادث الذبح البشع، الأول أن كثيراً من الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي تتزايد على أرض ليبيا تضع ضمن أهدافها استهداف مصر، أو هي تنظيمات صنعتها أجهزة استخبارات إقليمية لتحقيق هذه الغاية، لاسيما من يناصبون السلطة الحالية في مصر العداء، ويسعون ليل نهار إلى استهدافها. والثاني أن مصر تدرك أن ألف كيلومتر من الحدود مع ليبيا لا يمكن تأمينها عبر خطة دفاعية فقط، تكتفي برص صفوف القوات المصرية في اتجاه ليبيا، والتصدي لكل من يحاول التوغل أو التسلل شرقاً. فحتى هذه الخطة ليست عصية على الاختراق في بعض الأحيان مثلما وقع ذات مرة حين تمكنت مجموعات من الوصول إلى كتيبة عسكرية في واحة الفرافرة وتنفيذ عمل إرهابي ضدها. كما أن الاقتصار على الدفاع ضد الإرهاب ليس حلًا أو طريقة آمنة للتعامل معه، بل إن الأجدى هو الضربات الاستباقية التي إن لم تنهِ وجود الإرهابيين فهي على الأقل تعوق تمددهم، وتمنع تنامي قدراتهم وتحوُّلهم إلى قوة بوسعها أن تخوض معارك صغيرة ضد الجيوش النظامية، أو تطمع في اقتطاع أرض وضمها لتصير «دولة» مزعومة مثلما فعل «داعش» في العراق وسوريا حين قضم أجزاء من البلدين واحتلها. أما الأمر الثالث فيتعلق بالنتائج التي تترتب على التصورات الراقدة في أذهان الإرهابيين، والمتعلقة بالسعي إلى استعادة تاريخ قد ذهب قامت فيه إمبراطورية امتدت من غانة في غرب أفريقيا إلى وادي فرغانة في آسيا الوسطى! فمثل هذه التصورات تلحُّ على هؤلاء الإرهابيين طيلة الوقت فينكرون على الدول الوطنية القائمة وجودها، ويكفرون بسيادتها، ولا يحترمون علمها ولا نشيدها ولا دستورها، ويعتقدون وهماً أن البشر المنتمين إليها في حال رفض لها، وليس لديهم مانع من الاندماج في إطار تلك الإمبراطورية المتخيلة، تحت اسم «الخلافة»! ومثل هذا التصور سيدفع التنظيمات الإرهابية في ليبيا، طال الوقت أم قصر، إلى استهداف مصر، بدعوى «فتحها» أو غزوها، وضمها إلى الأراضي التي يحتلها تنظيم المدعو «أبو بكر البغدادي»، وهي مسألة تدل عليها تصريحات وتهديدات لا تتوقف تأتي إلى المصريين من الشمال الشرقي في سيناء وصولًا إلى الشام، ومن الغرب حيث ليبيا. ولعل مبايعة تنظيمات ليبية محلية لـ«داعش» هو برهان عملي على إنفاذ هذا التصور في الواقع، فتلك البيعة لا تنبع فقط من انتقال عدوى «داعش» لهذه التنظيمات وتقديمه النموذج لديها، مثلما سبق أن بايعت تنظيم «القاعدة» قبل أن يضعف ويتراجع تأثيره والاهتمام به، وإنما يزيد من خطورة التنظيمات المتطرفة في ليبيا أنها أيضاً لا تجد رداً ولا صداً داخلياً قوياً، حيث ضعفت قبضة الدولة المركزية وتفككت أوصال الوطن، وتعجز السلطة الحالية الهشة عن التحكم في كامل تراب البلاد ولاسيما أنها منقسمة على نفسها أو ليس لديها جيش قوي يحميها، بعد أن أضعف القذافي الجيش وأحل محله ميليشيات تابعة له كانت أقرب إلى المرتزقة منها إلى الجيوش النظامية. كما أن الحدود الليبية مفتوحة على جغرافيا شاسعة ووعرة تمتد إلى عمق الجزائر وشمال تشاد والنيجر ومالي، وفي كل هذه الأماكن هناك تنظيمات متطرفة بعضها دخل في صراع ضد الدولة الجزائرية في الفترة التي امتدت من 1989 إلى 1999 فيما عرف بـ«العشرية الدموية»، وبعضها الآخر تمكن ذات يوم من أن يقتطع جزءاً من أراضي مالي ويقيم عليها دويلة، سرعان ما انهارت بعد تفويض غربي وأفريقي لفرنسا والقوات النظامية المالية بشن حرب ضد أولئك الإرهابيين، ويمتد القوس الجغرافي جنوباً حتى نصل إلى «بوكو حرام» في نيجيريا. ولكل هذا لم يكن هناك خيار أمام مصر سوى التصرف بهذه الطريقة، ليس دفاعاً عن نفسها فحسب، بل عن دول المنطقة التي يستهدفها الإرهابيون. *نقلا عن جريدة "الإتحاد" الإماراتية