ما هو المشترك الذي يجمع كلاً من يوسف سليمان بن عبد الله، وصالح القشعمي، وخالد الشمري، وفهد سليمان القباع (على كثرة تشابه الأسماء في منطقتنا)! غير أنهم انتحاريون قرروا أن يقصدوا مساجد الله لا للتعبد، بل ليقتلوا خسة المصلين فيها وهم ركع أو سجود؟! إن كان ذلك الفعل القبيح يستحق لعنه وشجبه، فتلك واحدة من الدرجات التي يمكن لنا أن نتفاعل بها مع الحدث، إلا أن الأكثر نجاعة هو في تفسير ومن ثم فهم ما يحدث، ومحاولة تقديم اقتراحات لتفاديه، إنها ظاهرة ليست بجديدة ولا هي طارئة. لم يعد من المفيد الحديث عن تلك الأعمال، إنها مجرد شطط فردي، أو إنها تقع تحت عباءة كثيفة من التخدير المادي أو بسبب ظروف الاضطراب الإقليمي، ولا حتى ضياع شخصي في الحياة الخاصة، قد تكون تلك عوامل مهيئة، إلا أننا نحتاج إلى جهد دراسي عميق من أجل استئصال هذه الظاهرة والقضاء عليها. هناك مداخل أربعة للتوصيف (الفهم) الأول ما يلفت أن جميع من قام بهذه الأعمال الشائنة هم من الشباب، الذين لا يتعدى السنوات الأولى من العقد الثاني من أعمارهم، وهو عنصر لافت، يزداد فهما عندما نرى أن معظم المحرضين من جيل أكبر! المدخل الثاني أنهم يستهدفون المساجد لأي طائفة أو مذهب كان، فقناعتهم أنهم يعيشون بين «غير المسلمين» وأنهم وحدهم «المسلمون»، والمدخل الثالث أنهم ينتمون إلى شبكة معقدة من الجماعات المغلقة والعنقودية، يتخذ فيها الكبار القرار ويبررون الأفعال، ويقوم الصغار بالتنفيذ، كما ثبت في تحقيقات محاكمات الكويت لمنفذي ومخططي تفجير مسجد الإمام الصادق، والمدخل الرابع أن بعضهم كان قد قُبض عليه في السابق أو اتهم بالتشدد، مما يعني أن هناك «مظهرا مشتركا» للمرشحين لمثل تلك الأعمال. كل ما سبق من المداخل الأربعة يمكن من خلاله توصيف الظاهرة. أما تحليل الظاهرة فهي كما أسلفت تحتاج إلى جهود بحثية اجتماعية معمقة وموضوعية، للإجابة عن سؤال مركزي: لماذا يقوم هؤلاء الشباب بما يقومون به من أفعال إجرامية، تصور لهم أو ينظرون إليها على أنها «جهادية» والعياذ بالله؟ علينا أن ندرس العلاقة بين البيئة والنشاط، أي بيئة هؤلاء الشباب، ونشاطهم الذي يأخذهم إلى قتل الآخرين وقتل أنفسهم، والبيئة هنا هي البيئة الكلية، ولكن المدرسية واحدة منها، فإننا في الغالب نقدم لهؤلاء الشباب في المناهج صورة ناصعة وذهبية عن ماض خيالي غير موجود في الواقع، والشباب في أي ملة أو جنس أو جماعة شغوف بهذا الماضي، إن قدم له على صورة ماض لا يعتوره الخلل ولا يرى فيه إلا الحسن المتميز، فيخلق لديه الاشتياق «لمجتمع افتراضي»، وعندما يحتك بالحياة من حوله، تظهر له مباشرة الفروق بين ذلك المجتمع الافتراضي، وبين ما يعيشه في الواقع! فيرى التناقض واضحًا بين ما يُحفظ له في المدارس «دون إعمال تفكير» وما يراه في الواقع. ماذا يعمل لحل ذلك التناقض؟ هنا تتلقفه جماعات صغيرة وفاعلة ومغلقة على نفسها كي تَحل له ذلك التناقض الذي اختزن في أعماق نفسه، فأنت أولا تعيش في «مجتمع جاهلي» وبين «كفار» يجوز قتلهم. هنا تأتي المرحلة الثانية في التجنيد، وهي خلط «التفسير الديني القريب إلى الكهنوتية» بالتوجه السياسي، أي تضمين الشعارات الدينية مضمونًا سياسيًا للدولة - المجتمع المرجو في ذهن ذلك الشاب أو الجماعة الصغيرة المنتمي إليها. يدخل على الخط متوازيًا مع الجهد الذي تبذله الجماعة الصغيرة المنتمي إليها ذلك الشاب عاملان؛ الأول هو الفراغ الذي لم يحسن حتى الآن ملؤه ببرامج شبابية منظمة ذات فائدة، والثاني الأسرة التي ترى لسبب ولآخر أن الشاب الذي بلغ سن الرشد ونبتت حول وجهه شعيرات «الرجولة» قد «هداه الله» ولدى بعض الأسر أن تلك الهداية سوف تبعد شبابهم عن مزالق الزلل، ومنها الكثير مما يخافونه، فالاعتكاف في المسجد ومصاحبة «الخيرين» في دروس في المخيمات المنعزلة البعيدة! ينظر إليها من قبل بعض الأسر أنها خير كامل لا يأتيه الشر من أي جانب! بل ويشجع الشباب على الأمر والنهي في بيوتهم، ابتعادًا عن ممارسة آبائهم وأمهاتهم لدينهم الحنيف، فيتدخل ذلك الشاب «على أساس من ادعاء علم» أن يشرب الأب الماء وهو جالس لا واقف! وأن تقفل الأسرة جهاز التلفزيون لأنه «بدعة»، وتتدفق الخرافات والشعوذات وادعاء الفهم للدين حتى توصل الشاب إلى مرحلة القطيعة بينه وبين حياته وأسرته وعصره، وتلعب بعض «المؤسسات الدينية» التي حولت الدعوة إلى «بيزنس» من خلال تضخيم الخرافات وترويج غير المعقول، وهي مؤسسات ليست قائمة على علم، تفعل في المجتمع فعل التدمير الثقافي والعقلي وتحقير الإيجابي الموروث، تبدأ بالموضوعات الصغرى وتتدرج إلى الكبرى منها، مثلا: قل ولا تقل «تحكمًا في المفردات»، وابدأ كلامك بهذا النص لا ذاك، وملابسُكَ (أو ملابسُكِ) يجب أن تكون هكذا لا كذلك، وأن شكلك الخارجي يجب أن يكون بالشكل المفروض! وهكذا حتى يصل الأمر إلى أنك يجب أن تعيش في بيئة سياسية بهذه المواصفات لا بتلك! خلاصة الأمر أن ليس هناك «سفر عبر الزمان» فيما يقدم للشاب في المعنى أو السلوك في تاريخه، فهو عندهم زمان جامد، ومكان محدود، يعتمد في السلوك على ما فعل الماضون من الناس، دون فهم لخصوصية السياقات المعاصرة. عندما يُنتزع الشاب من بيئة عامة، يصبح في بيئة منعزلة وحاضنة لا يعرف غيرها، تسقط فيها مقاييس الزمان والمكان، يتضاءل الردع الأخلاقي الاجتماعي، هنا يحدث التوتر المكتوم بين الفرد ومجتمعه، وتطلق خريطة تبايُنات حادة، لا يجد خروجًا منها غير قتل نفسه والآخرين! انظر إلى الأسماء الحركية التي يتبنونها وهي أسماء أعلام رسمت صورتها في ذهنهم من الماضي بالمثالية المطلقة، ويتم خلعهم من الجوار الثقافي إلى جوار ثقافي مفترض لا وجود له، عليهم أن يجاهدوا حتى الموت من أجل استرجاعه. يستخدم هؤلاء افتراضًا حققه علم النفس الحديث وهو «أهمية المكانة بين الأقران» فالظاهر من دراسة سلوك الفرد في تلك الشبكة المغلقة، أن «اختياره للموت» يعتبر فوزًا بين الأقران وشرفًا يستحقه المتميزون، ومن خلال دراسة ما توفر من القلة القليلة العائدة من «الضلال» نجد أن التسابق على تفخيخ الذات هو للشاب بين الأقران ميزة، يقوم بتسجيل شريط قبلها يعدد فيه مناقب جماعته وسوء منقلب مجتمعه الذي ترك. لعل ملاحظة أخرى تتكشف للمتابع من دراسة سلوك تلك الجماعات الشبابية أن اندماجًا كليًا في أذهانهم بين الدين والسياسة، واعتبار المخالفين السياسيين كفارًا خارجين عن الدين، ومن يقرأ الأشعار التي تنشد من قبل هؤلاء الشباب في وسائل التواصل الاجتماعي، وهم في معتزلهم المغلق ذي الرأي الأوحد، يسمع دون شك ذلك الخلط المرضي. لعلنا لا نتجاوز ذكر وسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة ودورها، التي تستخدم لأغراض التجنيد، فهناك جماعات افتراضية يدخلها الشاب، وهي مغلقة وتبدو فردية أيضًا (أي أنه يعيش في مجتمع افتراضي محدود) لا يسمع ولا يرى إلا ما يقال له، بل ويحرم عليه إلقاء السمع لما يقال خارج تلك الدائرة، فيتم عزله ثم استخدامه. أمام هذه الشبكة المعقدة من الأسباب التي تتضافر فيها مكونات خارجية وداخلية، وتنتقل من الاستهداف الخاص إلى الاستهداف العام، تبدأ بالتكفير وتنتهي بالتفجير، علينا أن نبحث دون قيود عن الجذور وإلا فسوف تبقى معنا هذه الظاهرة، وحتى نفكر في حلول علمية نحتاج إلى عاملين، صبر وشجاعة في وقت واحد. آخر الكلام: لديّ شك كبير أن السيد حيدر جواد العبادي رئيس الوزراء العراقي، يستطيع أن يحقق مطالب الشعب العراقي في الإصلاح الشامل، لقد رُكب النظام العراقي هيكليا على الفساد، سوف تأتي رياح ساخنة من هناك في القادم من الشهور! من صحيفة الشرق الأوسط