هناك فجوة عميقة بين خطط الدولة التنموية بعد 30 يونيو وبين الحوار المجتمعي، وإذا كان الرئيس عبدالفتاح السيسي استطاع أن يعبر هذه الفجوة بعبقرية مذهلة حين أعلن عن مشروع شق قناة سويس جديدة فإن هذا لا ينطبق على المشروعات القومية الكبرى التي أعلنت عنها الدولة، ويرد النجاح الفائق لمشروع قناة السويس الجديدة إلى أن المشروع خضع لدراسات جدوى متقنة، وأنه عرض على الاكتتاب الشعبي، وبذلك أثار حماس المصريين لكي تبنى القناة بأموالهم، وأخيراً وقد يكون أولاً أنه عهد للهيئة الهندسية للقوات المسلحة أن تنجز المشروع في عام واحد بدلاً من ثلاثة أعوام، وهذا ما تم تحت بصر العالم الذي دُهش من جدية التصميم على الإنجاز وفي الوقت المحدد الذي أعلن عنه. غير أن هذه الشروط جميعاً لم تتوفر في بعض المشروعات القومية الكبرى التي أُعلن عنها؛ وفي مقدمتها مشروع زراعة المليون فدان، وذلك لأن المعلومات الأساسية عن هذا المشروع غير متوافرة من ناحية، ولم يكشف بعد عن دراسة الجدوى التي تقرر بناء عليها إقامة المشروع، وأهم من ذلك كله لم تتبين للرأي العام نتيجة تطبيق مقياس التكلفة - العائد، بمعنى هل التكاليف التي ستنفق على المشروع تتساوى مع الفوائد التي تترتب عليه؟ وفي مقدمة التساؤلات التي يطرحها الرأي العام من أين سنحصل على المياه اللازمة لري الأراضي الجديدة، وما هو نوع المحاصيل التي ستزرع؟ وهل ستكون للتصدير أم للإنتاج المحلي؟ وقبل ذلك كله ما هو عدد العمالة التي ستشارك في إنجاز المشروع، وهل ستنجح في سحب كميات من البطالة المنتشرة أم لا؟ وفي تقديرنا أن طرح المشروع على الحوار المجتمعي قبل تنفيذه ضرورة قصوى، وفي هذا الحوار ينبغي أن يتم التسامح مع وجهات النظر المعارضة التي قد يُبديها بعض الخبراء بناء على دراساتهم المتخصصة والمتعمقة، بالإضافة إلى آراء فئات المجتمع المختلفة التي على رغم عدم تخصصها الدقيق في الموضوع قد تدلي هي أيضاً بآراء إيجابية. نذكر ذلك لأننا مررنا من قبل في عهد مبارك بتجربة مؤلمة حقاً هي مشروع «توشكى» الذي قدم للرأي العام باعتباره المشروع القومي الأوحد الذي سيحل مشكلات مصر جميعاً، وينشر الرخاء في ربوع البلاد. وأذكر جيداً أنه نشأ حول المشروع حوار مجتمعي تلقائي شارك فيه المتخصصون بالإضافة إلى العديد من الكُتاب والمثقفين، وقد نشرت في «الأهرام» مقالة نقدية طالبت فيها بأن يكشف للرأي العام عن دراسة الجدوى التي أقيم المشروع على أساسها وعن الهيئة التي أجْرتها. غير أننا لم نتلق - كرأي عام في ذلك الوقت - رداً شافياً، وتم إنفاق ما لا يقل عن ستة مليارات جنيه في مشروع لم يتح له أن ينجز شيئاً ذا بال؛ بل إنه شابته قرارات كانت محل نقد شديد. وقيل وقتها إنه تم إنشاء أكبر ماكينة رفع للمياه في العالم تكلفت ملايين الجنيهات لحل مشكلة ارتفاع التربة عن الموارد المائية. ونحن لا نريد إطلاقاً أن نكرر تجربة مشروع «توشكى»، ولذلك يقع على عاتق الدولة أن تنشر «الخريطة التنموية لمصر» في السنوات القادمة. وأن تخضع هذه الخريطة لدراسة ونقد المتخصصين في الزراعة والصناعة والتكنولوجيا والمياه، بالإضافة إلى تعليقات النقابات العمالية والاتحادات المهنية وغيرها من الدوائر الفكرية. وميزة هذه الخريطة التنموية أنها - بحسب التعريف - ستحدد إستراتيجية التنمية وتكتيكاتها في الوقت نفسه وفق خطة زمنية ملزمة، تفرق بلغة التخطيط بين الزمن القصير والزمن المتوسط والزمن الطويل، وذلك حتى لا تسبق توقعات الجماهير الإنجاز الفعلي على الأرض، مما يولد توترات اجتماعية نحن في غنى عنها. ومما لاشك فيه أن هذه المتطلبات تنطبق - أكثر ما تنطبق - على المشروعات القومية الكبرى التي أعلن عنها، والتي تضاربت تصريحات المسؤولين بصددها. ومن هنا أهمية نشر الخريطة التنموية حتى يشارك أكبر عدد من الخبراء والمتخصصين في دراستها للاتفاق على معايير موضوعية لتحديد أولوية المشروعات التنموية وأجدرها بالتنفيذ العاجل لحل مشكلات الجماهير العريضة. من صحيفة الاتحاد الإماراتية