شن المفكر المصري سلامة موسى حملة كبرى على الأجانب الذي يديرون صحافة بلاده. وكان يقصد طبعًا اللبنانيين الذين أنشأوا «الأهرام» و«الهلال» و«المقطم» و«دار المعارف» وسواها. كانت حجته أن الأجنبي مهما والى وصدق، لا يمكن أن تكون له مشاعر المصريين: لا يمكن أن يحزن مثلهم لغياب مصطفى كامل، ولا أن يفرح مثلهم لفوز سعد زغلول. والأرجح أنه كان في معظم الحالات على حق. ومع أن أنطون الجميل رئيس تحرير «الأهرام» كان من ألمع الصحافيين الذين عرفتهم مصر، فقد ظل المصريون يشككون في أن ضعفه الحقيقي هو لثقافته الفرنسية، وأن ولاءه الضمني لفرنسا. كما كان هناك شك عميق في أن ولاء آل صروف وكريم ثابت، مستشار الملك فاروق، هو لثقافتهم الإنجليزية وضعفهم حيالها. لا ينفع، في قليل أو كثير، أن نقول: لعل ذلك صحيح. ولكن اللبنانيين أسسوا لمصر صحافة كبرى لا تزال حيّة حتى الآن. الولاء، في الصحافة كما في الحياة، أهم بكثير من البراعة المهنية. وهذه ليست مشكلة مصر وحدها طبعًا. ففي لبنان، كان الولاء للبنان هو الخيانة الكبرى. وتعرض وليد جنبلاط للتهديد لأنه انتمى إلى شعار «لبنان أولاً». أساء عدد من الصحافيين المصريين استخدام هوامش الحرية التي فتحها حسني مبارك. انتقلت مصر من بلد يُسجن فيه الصحافي لكلمة قالها على الهاتف، وليس في صحيفته، إلى بلد يعلن فيه الصحافي وفاة رئيس الجمهورية، غير آبه لما يترك ذلك في السياسة والاقتصاد ومكانة الدولة. وعندما دخلت مصر في خلاف مع العراق حول إيران، ثم الكويت، لم يتردد صحافيون في الوقوف إلى جانب العراق. واتخذ عدد من صحف الخليج جانب الدول الخارجية ضد حكوماتهم ودولهم. وخاضت الأنظمة العربية حروبها ومعاركها على أرض سواها. من يضع حدود وأصول الحريات الصحافية؟ ليس الحكومات، ولا القانون، ولا المحاكم. يضعها الذوق العام. الحس الأدنى بالأصول. الحدود الدنيا من الآداب وحسن السلوك وتجنب التوغل. ولا مبالغة ولا غلو في القول إن المسّ بالذوق الوطني العام ليس أقل خطورة وبشاعة من المسّ بالأمن القومي. لأن المسّ بالذوق الوطني هو مسّ بصورة مصر وآداب مصر. وهذه ليست مسألة أقل خطورة. هذه إفساد للإحساس بالأخلاق والقيم. فبأي حق تدخل إلى بيوت الناس هذه المستويات التي تأنفها حتى الشوارع؟! كان سلامة موسى يخشى ألا يعرف الأجنبي كيف يفرح لسعد زغلول. الكارثة ألا يعرف المصري كيف يتأدب لحرمة بلده.