لا داعي للحيرة بشأن عروض إيران للتقارب مع دول الجوار العربي، لا قبل الاتفاق النووي ولا بعده. إنّ المفروض أنّ دول مجلس التعاون الخليجي تملك موقفًا موحَّدًا من العلاقات مع إيران ومتطلباتها وإشكالياتها. ولذلك ما كان ينبغي أن تثير زيارة وزير الخارجية الإيراني للكويت وقطر هذه الحيرة، وهذا التردد. يستطيع أي مسؤولٍ خليجي - أو هكذا أرى على الأقل - أن يقول للإيرانيين إنه بعد هذه السنوات الطوال من الوقائع السلبية من جانب إيران تجاه العرب، يكون على الإيرانيين أن يقدموا دلائل أولية على الأقل عن إرادة التغيير، بحيث يصدّق العرب أنّ هناك إرادة لذلك، فيلتقون معهم للمضي في أمرين: المشكلات المعقَّدة من أجل النظر في فك العُقَد في مدى قصير أو متوسط، والنظر في المساحات التي تسمح بإقامة علاقاتٍ جديدة لا تُرهقها مصائبُ الماضي القريب أو البعيد. هناك مسائل واضحة في طبيعتها التدخلية والعدوانية، وتستطيع إيران بالفعل أن تُمهّد لإمكانيات التفاوُض البنّاء بها. أولى هذه المسائل استمرار العدوان الصريح على أمن البحرين واستقرارها. وثانية هذه المسائل الارتهان التخريبي للبنان رئاسة وحكومة في حين أنه لا داعي لذلك غير محاولة الإخضاع المطلق للعرب في المسألة السورية. وثالثة المسائل: وقف الحوثيين عن الحرب العبثية التي تدمِّر اليمن وتدمِّرهم هُم. وكنتُ أستطيع بالطبع أن أذكر مسائل أخرى، لكن اعتبرتُها مركَّبة أو معقَّدة وتحتاج لمفاوضاتٍ وتواصُل. أمّا أن نجلس الآن مع الإيرانيين لنتفاوض على استقلال بلداننا، وأمنها من ميليشياتهم فهذا انتحارٌ لا يمكن أن يخوضَ فيه عاقل. لماذا أرى أنه لا تغيير في السياسات الإيرانية تجاه العرب بلدانًا وشعوبًا ودولاً، بل ودينًا؟! الوقائع التالية التي حدثت خلال هذا الأُسبوع، أي عندما كان الإيرانيون يشنُّون علينا حملة سلامٍ بزعمهم: أولاً: انكشاف الشبكة التخريبية بالكويت. والكويت دولة مُسالمة وتُحاول بكلّ سبيلٍ أن تتجنب المشاكل مع إيران. وقد زار أمير الكويت إيران في شتّى الظروف وأسوئها، وقدّم عروضًا ما لقيت تجاوُبًا. وعندما فجّر إرهابي أحد المساجد الشيعية بالكويت قبل أسابيع، هبَّ الشعب الكويتي عن بكرة أبيه، لاستنكار الجريمة. ومع ذلك فكلما أراد الإيرانيون إرسال رسالة تهديد لعرب الخليج، يأتي مسؤول إيراني للكويت ويطلق من هناك التصريحات العدوانية. إنّ ذلك كلَّه وعبر عشرين عامًا وأكثر، ما منع الإيرانيين وميليشياتهم في لبنان والخليج من التخطيط والإعداد دائمًا للضرب في أمن الكويت، وليس البحرين فقط. وفاعلُ ذلك في حالة الكويت بالذات، كيف يُصدَّقُ أنه يريد علاقات حسن جوار؟! ثانيًا: اندلعت قبل أسبوعين مظاهرات شعبية في مدن العراق الشيعية الغالبية، وبخاصة في بغداد للمطالبة بخدمات الكهرباء والماء المفقودة بعد ثلاثة عشر عامًا على سقوط حكم صدّام حسين، وسيطرة أنصار إيران على نظام الحكم هناك. بعد الماء والكهرباء في هذا الصيف الخانق، طالب المتظاهرون بمكافحة الفساد المستشري الذي أكل كلَّ ثروات العراق خلال قرابة عقدٍ ونصف (تريليون دولار). ومن الطبيعي أن تتجه حملات المطالبة إلى الحكومة والبرلمان. وقد تردد العبادي ثم أقدم، وتلقّى البرلمان كُرة العبادي وتابعها. ولكي لا نمضي في سرد التفاصيل؛ فإنّ رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، المتهم الرئيسي بالفساد المالي والسياسي، عندما وجد أنّ الاتهامات كلَّها تتجه إليه، مضى سريعًا مع كبار أعوانه إلى طهران التي قابله كبار مسؤوليها وصدر بيان يقول: المالكي قائد إسلامي كبير وقد تجاوز نفوذه العراق إلى الإقليم، وإنه لولا سياساته لنشبت الحرب الأهلية، وإن الهجوم عليه هجومٌ على الإسلام والمسلمين! يبدو أنّ المالكي الذي أبى أن يخرج من السلطة إلاّ بضماناتٍ إيرانية، مضى إلى إيران للمطالبة بالحماية الموعودة. لقد كان بوسع إيران أنّ تُسهم في إقامة دولة جوارٍ رشيدة بالعراق، وبخاصة أنّ هناك غالبية شيعية، وهي تزعم رعاية حقوق الشيعة. لكنها ما فعلت شيئا من ذلك، بل نفذت من خلال المالكي العكس، بحيث نشبت حربٌ أهلية، مكّنت «داعشًا» من التغلغل في أرض العراق وأوساطه الشعبية الساخطة. وكنا نظن أنّ السخط سني، لكنه يبدو الآن شيعيًا أيضًا. فالأحرى القول من دون تردد إنه سخطٌ عراقي على السياسات الاستغلالية الإيرانية! وثالثًا: الحالة المخزية في سوريا على مدى خمس سنوات، التي شاركت خلالها إيران نظام الأسد في قتل الشعب السوري وتهجيره أو احتجازه تحت التعذيب والحصار. لقد قلت إنني أريد عرض وقائع هذا الأسبوع بالذات في السياسات الإيرانية التي تدل على أنهم لا يريدون علاقات حسن الجوار ولا يقبلونها. وما أقصده حالة مدينة الزبداني بعد القصير والقلمون والغوطتين وحمص وحلب وغيرها وغيرها. بعد حصارٍ وقصفٍ مشترك للزبداني بين نصر الله والأسد، ضغط مقاتلو سوريا الآخرون لإيقاف حرب الإبادة بالهجوم على بلدتين شيعيتين في ريف إدلب، وقد جرت مفاوضات بين الإيرانيين وممثلين عن مقاتلي الزبداني من أجل التبادل في وقف الهجوم على الزبداني وقراها في مقابل وقف الهجوم على البلدتين الشيعيتين. فماذا حصل؟ أصرَّ نصر الله والإيرانيون على تهجير كل أهل الزبداني مقاتلين وغير مقاتلين، وإحلال سكان القريتين الشيعيتين وآخرين محلَّهم! يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن إنه لا يجوز شن الحرب إلا لسببين: الاضطهاد الديني، ومحاولة الإخراج من الديار: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إنّ الله يحبُّ المقسطين». الإيرانيون ونصر الله يقاتلوننا في ديننا عندما يهجمون على القصير والقلمون والزبداني وغيرها بحجة حماية مزارات آل البيت، مع أنه ليس في تلك المناطق مزارات لأهل البيت! وهم مثل الإسرائيليين يقاتلوننا لإخراجنا من أرضنا، يريدون تهجير أهل الزبداني وقرى أُخرى وإحلال الشيعة سوريين ولبنانيين وأفغانًا وباكستانيين محلَّهم: هل هذا معقول؟ إنه حقيقي وعلني، وهذه سياساتٌ لهم ليس في سوريا فقط؛ بل في العراق ولبنان وإيران أيضًا! وتقول لنا يا ظريف قبل هذا وبعده إنك تريد علاقات حسن جوار؟ حُسْن جوار مع مَنْ، ما دام الذين يجاورونكم مطلوبٌ قتلهم أو تهجيرهم؟! بعد حصار سنواتٍ أربع، وقصف بالطيران والمدفعية لمدة شهرين، دون أن تتمكن جحافل الأسد ونصر الله من الدخول إلى الزبداني، تعاهد مَنْ بقي حيًا من المقاتلين بالزبداني والقرى المجاورة على البقاء في أرضهم والقتال حتى الموت؛ وهذه شيمة العربي، بل وكل أعزاء البشر: وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ فمن العجز أن تموتَ جبانا