يبدو أننا سنظل حتى هذه اللحظة، متورطين بكل أخطائنا التي نعرفها، ولكننا نتسامح مع وجودها، ونقبلها من دون أن نرفض وقوعها. لا زلنا نقع بسهولة شديدة فريسة للفجاجة - كما يقول البعض - وضيق الأفق، من دون أن يكون لنا دور مجتمعي في إصلاح ما يمكن لنا إصلاحه، على رغم سهولته وبساطته. نحن لا نزال خلية من التشاؤم البغي، صورة نمطية لا تقبل - أحياناً - الفرار من إطارها، لدينا قدرة غريبة على تهميش الآخرين، أو هؤلاء الذين لا ينتمون إلى فراغاتنا النفسية، لم يعد هناك مجال للشفقة إلا على أنفسنا، قلقنا الذاتي يجعل الرؤية تبدو قاتمة إلى حد كبير، تطرفنا باختلاق المسافات البعيدة، عزز لدى بعضنا ما يسمى بالاضطراب الاجتماعي، كل هذه المشاعر تواردت بإحساس مبرر، حينما شاهدت الوافد البنغالي وهو يقف على طرف الفيديو ويمسك بابنه وشقيقه، إذ انتشر مقطع لفيديو قام بتصويره أحدهما في مجمع تجاري في المملكة، والعم يداعب ابن شقيقه بطريقة تبدو إلى حد كبير، وكأن ما يقوم به العم «تحرشاً» بالطفل الذي يلاعبه، الفيديو الذي انتشر كما النار في الهشيم، قد وثّق رواية خائبة، للأسف تداولتها إحدى المحطات الفضائية في برنامج صباحي يومي، من دون أن تتحقق من صحة الفيديو، ومن الإساءة البالغة في نشر هذا المقطع، وعلى الأخص أن هذه القناة يتابعها الملايين من المشاهدين، فكال الجميع للوافد أنواع الشتائم واللعنات، على اعتبار أن ما تقدمه هذه القناة، يعتبر أقرب لأن يكون رسالة خالدة من الشفافية والوضوح، على رغم تكرار الأخطاء الواحد تلو الآخر. شاهدت المقطع الأول الذي تم تصويره مع أسرتي، قبل أن أشاهد المقطع التالي لوالد الطفل، فكان لأسرتي رأي آخر، بأن الطفل بدا إلى حد ما مبتهجاً ولم يقم بالصراخ أو العراك مع الرجل، إذ انتشر الخبر بأنه سائق أسرة الطفل، ليتضح بعد ذلك أن هذا الوافد ما هو إلا عم الطفل، أحاديث أسرتي دفعتني لأن لا أقوم بنشر المقطع، وتأكدت أن أسرة الطفل لن تسكت عن حق طفلها أبداً، وهذا ما حدث لاحقاً، حينما ظهر الوافد وهو يتحدث بلغة عربية مكسرة، بأنه مقيم في السعودية لثلاثة أعوام، وأنه يثق بأخيه، لهذا فقد اعتاد على أن يترك طفله مع أخيه. الشر لا يزال يحوم حولنا، حول ذاكرتنا وثقافتنا الخاصة، حتى حول أحاسيسنا المقلقة، لن يكون هناك شر مطلق أو خير مطلق، كما كانت الروايات العربية القديمة تقنعنا بهذا المسار السردي، أو حتى أفلام الأبيض والأسود، تعاطفت مع أسرة الوافد البنغالي، ولم أتعاطف ولو للحظة مع كل التعليقات التي انهمرت من دون شفاعة، بأن ما قام به العم يعتبر من وجهة نظرهم الشخصية «تحرشاً» خطيراً، ولكن الأمر الآن بيد الأب، لا بيدنا نحن، هل هذه الثقافة عبر تقبيل الطفل بهذه الشراهة، تعتبر أمراً طبيعياً في بنغلاديش؟ أم أنه بالفعل أمر خطير؟، وعلى الأب سرعة أخذ كامل احتياطاته ممن حوله، على اعتبار أن معظم المتحرشين هم من الأقرباء، كما تقول المنظمات العالمية لحقوق الطفل. الصورة المخلة التي لم ترق لي وللكثيرين، هي شغف البعض بالتصوير، ورغبتهم في النشر من دون التحقق من صلاحيتهم لفعل ذلك، ثمة قصص لا نرغب كثيراً في أن تصور من دون إذن مسبق، وعليه لابد أن تكون هناك أحكام رادعة لأي مواطن أو مقيم يعمد إلى تصوير الآخرين، ونشر مقاطع الفيديو الخاصة بهم، فهؤلاء ليسوا قتلة أو إرهابيين حتى نشبع رغباتنا في التهكم والتطلع على فضائحهم، ولسنا محققين أو مخولين لأن نقوم على هتك حياوات الآخرين، كما يفعل البعض. شاهد الأب البنغالي وهو يتحدث أمام الكاميرا، وأنت ستدرك عزيزي المصور، كم ستكون يوماً ما ملهماً وبارعاً في خراب وتقاطع مشاعر كثيرة، ربما لا تعني شيئاً لك، ولكنها تعني الكثير لمن لا تعرفهم حق المعرفة!