عاين اللبنانيون مرة جديدة في أزمة النفايات المتفاقمة، الارتباط الوثيق بين السياسة وبين الشأن الحياتي والادارة العامة. حصر منظمو التحرك المطالب بحل الازمة، مجموعة «طلعت ريحتكم»، دعوتهم بحل من ضمن آليات العمل الحكومي ومؤسسات الدولة. عندما فاجأهم رد القوى الامنية القاسي في ليلة تظاهرتهم الكبيرة الاولى (السبت 22/8) افلت منهم شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» كمن تفلت منه شتيمة مقذعة في لحظة غضب. تراجع المنظمون عن الشعار لكن «النظام» لم يقبل التراجع ولا الاعتذار وأبى إلا ان يحضر بقوته العارية خصماً مباشراً للمنظمين، الذين اسقط في ايديهم فأعلنوا في اليوم التالي انسحابهم مدة اسبوع من الشارع. لا مزاح اذاً مع «النظام» الذي يأخذ كل تحرك من خارج آلياته وانقساماته الداخلية على محمل شديد الجدية ولا يتأخر عن قمعه وتمزيقه واختراقه بكل الوسائل الممكنة. ادرك القائمون على النظام منذ اللحظات الأولى للتحرك طابعه الشامل واستحالة الفصل بين المطلب الحياتي بتنفيذ الدولة أقل واجباتها برفع النفايات وبين السؤال السياسي حول مستقبل النظام المأزوم والقلق. لوم المنظمين لرفعهم شعارات سياسية جاء الرد عليه من «النظام» نفسه في اليوم التالي، عندما كشفت المناقصات التي أجريت للشركات الراغبة في جمع النفايات عن التداخل العضوي بين السياسيين الممثلين في الشركات عبر وكلائهم وبين الفساد المتمثل في أسعار خيالية لعمليات الجمع. الشركات تتولى الجمع فقط من دون المعالجة التي ستبقى مسؤوليتها على الدولة. أي ان الشركات – السياسيين سيحصلون على لبّ الثمرة المفيد ويرمون قشرها للدولة لتتولى حل مشكلة التخلص من النفايات وهي صميم الأزمة الحالية، بسبب الافتقار الى الاماكن المخصصة للطمر او الحرق او المعالجة الحرارية. لا فكاك من ارتباط الشأن المعيشي البسيط في لبنان، بالشأن السياسي. ولا فكاك من ارتباط السياسة بالفساد وبنهب المال العام. ومن يقرأ دستور ما بعد اتفاق الطائف يرى بجلاء أن مأسسة النفوذ الطائفي أعمق من ان تترك مسألة خارج سيطرتها، فما بالك في مسألة تدر عشرات ملايين الدولارات على المتنفذين والسياسيين من كل الانتماءات والطوائف الكريمة؟ فضيحة فض المناقصات كانت أكبر من ان تحتملها الحكومة رغم تورط اعضاء بارزين منها في فصولها. ألغت الحكومة المناقصة لتصطدم من جديد بجدار النفايات الأكثر ارتفاعاً من ذلك الذي نصبته ليوم واحد امام مقرها في وسط بيروت. الكارثة تتلخص في وقوع ازمة النفايات على ازمة النظام برمته، وفي اصرار الجماعة السياسية الحاكمة على التمسك بأساليبها في تقاسم العائدات وتوزيع الحصص بعيداً عن أي رقابة. مجلس النواب الذي يفترض ان يمثل الشعب، معطل وشمله التقاسم السلطوي منذ زمن بعيد ولم تعد له قيمة تذكر في الرقابة على السلطة التنفيذية. كذلك الأمر بالنسبة الى هيئات المحاسبة الرسمية المفترض بها الحفاظ على انتظام العمل الاداري. تقاسم مؤسسات الدولة افضى بها الى «توازن رعب» يشلّ كل عمل اصلاحي بذريعة انه موجه ضد هذه الطائفة او تلك والمحسوبين عليها. عليه، تبدو الأمور مقلوبة. فليس المنظمون من «سيّس» التحرك وطرح شعارات اكبر من قدرته على تحقيقها. بل أن «النظام» تدخل بوسائله المعروفة للحيلولة دون تغيير آليات الحكم على رغم تهالكها وتفككها اليومي، تماماً مثلما تتحلل النفايات تحت شمس آب (أغسطس) الحارقة.