تتجمع فوق التحرك اللبناني الحالي مناخات شديدة الشبه بتلك التي رافقت اندلاع الحرب الأهلية في 1975 وخلاصته تبني مواقف مزدوجة تفضي الى انفكاك شرائح واسعة من اللبنانيين من حول التحرك برغم عدالة مطالبه. على أرضية شديدة الحساسية لكل إشارة يُفهم منها معنى أو إشارة طائفية ولو بسيطة، غيّر مشاركون في الحراك أولوياتهم وقرروا استهداف فريق سياسي – طائفي بعينه. يؤدي دور «المغفل المفيد» في هذا المسار يساريون سابقون وحاليون قرروا إمتطاء التحرك الشبابي الداعي الى حل أزمة النفايات. إذا أردنا تسمية الأشياء كما هي، يستبطن كل تحرك مضموناً قابلاً للتأويل الطائفي. في بدايات الحرب، تحفظ السنّة في بيروت على التحالف اليساري - الفلسطيني (وان سعوا الى الاستفادة منه) وأحجم أكثرهم عن المشاركة في الحرب لأسباب تمتد من الإحتجاج على تدمير مدينتهم الى الشعور بالريبة حيال حماسة أبناء الطوائف الأخرى للقتال في العاصمة وبالتالي تغيير تركيبتها السكانية وصولاً الى الشك في الهدف البعيد في الانقلاب على صيغة الحكم التي قامت بعد استقلال 1943. التحرك الحالي يسير في طريق مشابه. يرتاب كثر من سنّة بيروت في التمسك باستهداف وزير البيئة الذي تخلى عملياً عن مسؤولياته معلناً فشله في معالجة الأزمة. وبريبة إضافية حيال دور شبان محسوبين على طائفة منافسة في الصدامات التي وقعت أثناء التحرك حيث ظهر ان مجموعات تنزل الى الشارع في معزل عن إرادة منظمي التحرك وتعتمد لغة التخريب المقصود لوسط المدينة. وجاءت الدعوة الى الاعتصام في منطقة الزيتونة على شاطئ البحر بحجة استرداد الأملاك البحرية المسروقة، لتبرهن من لم يقتنع بعد أن ثمة جدول أعمال سياسياً يحاول أشخاص معروفون فرضه على التحرك بغية جرّه الى خدمة اهدافهم الخاصة. لا معنى للرد على الشكوك الواردة أعلاه برطانة فارغة عن «علمانية التحرك» وطبيعته الشبابية والمدنية العابرة للطوائف. فمن لا يستطيع التعامل مع حساسيات مجتمع يعاني من استقطاب طائفي يرتفع بسرعة صاروخية منذ 2005، أفضل له ان يلزم منزله. ويغلب على الظن أسوأه، أي تعمد قسم ممن عيّنوا أنفسهم «آباء روحيين» للتحرك توجيه السهام الى طرف سياسي محدد، هو تيار «المستقبل» ضمن المعركة السياسية التقليدية وانقسام البلد الى معسكرين. بكلمات ثانية، يريد هؤلاء إعادة التحرك الى الخانة التي تأسس على فكرة هجر الانقسام. وسنّة بيروت ليسوا مؤيدين فطريين لـ «المستقبل» بل أن قسماً لا يستهان به منهم من المتضررين المباشرين من مشروع «سوليدير» الذي ألحق بممتلاكتهم أضراراً جمّة. لكن تأييدهم لما تبقى من التيار الحريري ينبع أساساً من الخوف الذي سببه تضخم قوة «حزب الله» وغطرسته. وهم لن يؤيدوا «داعش» و «النصرة» خلافاً لما قد يفعل بعض سنّة الارياف لأسباب يطول شرحها. في المقابل، ينبغي القول ان مدّعي اليسار يحتاجون الى إعادة تعريف. ومن الأزمات القاتلة التي أصابت محاولات بناء يسار في لبنان كانت السمة الريفية لأكثرية المنضوين في قواه في حين يفترض باليسار ان يكون ممثلاً للتوجهات الأكثر مدنية. أجاب يسار الريف على هذه الحجة باتهام أهل المدن بـ «البرجوازية الصغيرة» وما زال عند اتهامه هذا. لكن الحقيقة في مكان آخر. الحقيقة تقول ان الإرتكاس الى الولاءات الطائفية والعشائرية أسهل في الأرياف منها في المدن لرسوخ نظام الولاءات التقليدية هناك. سيان تغطى هذا الارتكاس باليسار أو الدين أو غيرهما.