يعرف «التيار الوطني الحر» (أو لا يعرف؟) أن ما يحول دون تلبية مطالبه باستعادة حقوق المسيحيين هو الاستقطاب الشديد في لبنان بحيث دخلت مؤسسات الدولة التشريعية في غيبوبة يمكن أن تمتد لتشمل الادوات التنفيذية والقضائية. ويعرف «التيار» أن تركيز الاستهداف على طرف سياسي واحد ووسمه بـ «الداعشية» وسيلة سهلة لاستثارة خوف المسيحيين الذين يراقبون بتوتر ما يجري في البلدان المحيطة بهم، بغية حشدهم حول زعامته، وأن إلحاق الطرف السياسي الذي يتولى رئاسة الحكومة والطائفة التي يمثل، بدول الخليج والشتائم الطائفية التي لم يشهد لبنان مثلها في أحلك ايام الحرب الاهلية، لن تساعد على تسوية المشكلات – الحقيقية او المتخيلة- التي يشكو «التيار» منها. ولا بد أن مسؤولي «الوطني الحر» يعرفون انها لعبة خطرة في مناخ محتقن طائفياً وقابل للاشتعال على اكثر من جبهة وأن في وسع أي كان بدء الحرب لكن احدا لا يستطيع التحكم بمساراتها ونتائجها. ويفترض قبل ذلك وبعده أن يكون زعيم «التيار» واركانه على اطلاع كاف على ما يحدده الدستور اللبناني واتفاق الطائف من توزيع للسلطات والمناصب على الطوائف، وارتباط ذلك الدستور والاتفاق بموازين القوى التي افضت اليها اعوام طويلة من الاقتتال. بكلمات قليلة يمكن تلخيص شكاوى «التيار» بمجموعتين: تتعلق الاولى باستئثار الطائفة السنّية وممثلها الأكبر «تيار المستقبل» بعدد وازن من المصالح الاقتصادية الحيوية ومنعه عائداتها عن الدولة وتعميمه لثقافة الفساد والافساد والاستيلاء على المال العام. اما الثانية، فسبب الاولى وهي التقاسم غير العادل للسلطات الذي اتاح لـ»المستقبل» الهيمنة على موارد الدولة ومؤسساتها. اما جذر هذه العلة فيكمن في دستور ظالم للمسيحيين ويستبيح حقوقهم. توحي كل هذه المقدمة بضرورة إعادة نظر جذرية في النظام السياسي في لبنان. مبدئياً، لا مانع في ذلك. لكن على الساعي الى إعادة النظر هذه الانتباه الى انها ستعكس في نهاية المطاف موازين القوى الداخلية والاقليمية السائدة اليوم، تماما كما جرى في اتفاق الطائف وفي ميثاق 1943 وعند تأسيس «لبنان الكبير» في 1920. هل في الوسع تصور موازين القوى اليوم؟ إختصاراً للنقاش فلنقل اننا في خضم عملية تفكيك وإعادة تركيب هائلة الأبعاد للمنطقة بأسرها، وأن أحداً لن يقبل بتنازل ولو طفيف عمّا يراه حقوقاً مكتسبة ولو سفكت دونها أنهار من الدماء. فلماذا سيتنازل السنّة او الشيعة اللبنانيون «للتيار الوطني الحر» وما هي الوسائل المادية التي يستطيع عبرها انتزاع الحقوق المزعومة؟ لا شيء باستثناء القدرة على التعطيل والاستقواء بالتحالف مع «حزب الله» وقدراته العسكرية. حسناً. لكن هل يعتقد «الوطني الحر» فعلاً ان العالم أو الغرب في وارد مساندته سياسياً أو عسكرياً إذا خرجت الامور عن السيطرة؟ هل يظن ان هناك من يبالي اليوم بأخبار لبنان برمته ناهيك عن مصير هذه الطائفة أو تلك فيه وسط لجج الكوارث الداهمة؟ إذا كان الجواب «نعم»، فليجرب «التيار» حظوظه وستكون صدمته كبيرة بحلفائه الغارقين في مشكلاتهم التي تفوق أهميتها بكثير «الحقوق» السليبة، قبل أن يُصدم بلامبالاة الغرب المسيحي حامي الأقليات، على ما يقال. ولعل في فشل جولات الحوار الوطني التي بدأت في 2005 الدليل الصلب على عقم كل محاولات تقاسم جديد للسلطة ضمن الصيغة السابقة. لم يعد النظام اللبناني قابلاً للإصلاح لكنه، في المقابل، مصاب بشلل يمنع تغييره قبل انجلاء غبار الحروب حول لبنان.