عيش «بي بي سي» مشكلات تهدد مكانتها في بريطانيا والعالم. لكن الأزمة الراهنة لا تهدد بقاء المؤسسة العريقة، التي حافظت طوال عمرها وبامتياز على الموضوعية وتمسّكت بحياد نادر في وسائل الإعلام. تنوعت الأسباب التي أفضت إلى الأزمة، من فضائح بعض العاملين الى نشر ادعاءات كاذبة ضد سياسيين، وتشهير، فضلاً عن تدهور في بعض المعايير التحريرية وضعف الموارد المالية. وهذه المشاكل ربما تلحق أضراراً بصورة هذه المؤسسة الفريدة. «بي بي سي» مدعومة من دافعي الضرائب البريطانيين، وهي المؤسسة الوحيدة في العالم التي تحظى بهذه الميزة التي صنعت استقلاليتها ومنعت هيمنة السياسيين ورغبات المعلنين من التحكم بمضمونها، ما جعل صحيفة «ذي تايمز» تؤكد في مقال نُشر الأسبوع الماضي أن «بي بي سي تحتفظ إلى حد كبير بثقة الشعب البريطاني ومودته»، على رغم كل ما يجري فيها ويثار حولها. لذلك من الصعب تخيُّل بريطانيا من دون «بي بي سي»، فهي جزء مهم من صورتها العريقة، وأهم ركن للحرية الصحافية في هذا البلد والعالم. ولهذا سارع رئيس الوزراء ديفيد كامرون إلى طمأنة البريطانيين إلى أن «هيئة الإذاعة البريطانية» باقية، و «لا تواجه أزمة تهدد وجودها». ولكن، على رغم عراقة هذه المؤسسة وتفوّقها مهنياً على مثيلاتها في الغرب وبقية دول العالم، وحفاظها على المعايير المهنية، وانحيازها إلى الصدقية والموضوعية، فإنها أهملت إلى حد بعيد قنواتها الناطقة بلغات أخرى، مثل العربية، ومَنْ يتابع تلفزيون وإذاعة «بي بي سي» العربيين سيجد أنهما لا يلتزمان معايير نظيرتهما الإنكليزية، إذ أصبح بعض البرامج يعبّر عن رأي معدّيه ومقدّميه. صحيح أن نشرات الأخبار ظلت وفيّة لمعايير المؤسسة الأم، لكن برامج الرأي ابتعدت منها كثيراً، وفي مواكبتها الأزمات التي تمر بالعالم العربي، نجد أن «بي بي سي» العربية تجافي الموضوعية إلى حد بعيد، وتمارس انحيازاً لا يختلف عما تفعله القنوات الإخبارية العربية. ولهذا شكّلت قناة «فرنسا 24» منافساً قوياً لـ «بي بي سي» العربية، واستطاعت أن تكسب مشاهدين كثراً في العالم العربي خلال السنتين الماضيتين، من خلال قدرتها على نقل وجهات النظر في شكل متوازن، فضلاً عن أنها تمتاز بمهنية عالية، ولغة عربية رشيقة وممتعة. مؤسف أن يتحسّر المشاهد العربي على ضعف قنوات غربية ويفرح بنجاح أخرى، كأنه فقد الأمل بقنوات عربية قادرة على صنع إعلام يرفض الدعاية السياسية وينفر منها، وينقل المعلومات والآراء من دون حجب أو وصاية. لكن الواقع يفيد بأن زيادة عدد القنوات الإخبارية في المنطقة العربية، لا تعني مزيداً من تدفُّق المعلومات والحقائق، بل زيادة في الغموض وضياع الحقيقة. ولهذا، أصبح المشاهد العربي مضطراً أن يتابع أكثر من قناة عربية، ليستطيع معاودة صوغ الخبر في شكله الصحيح.