نجح خادم الحرمين الشريفين في زيارته إلى واشنطن من استثمار عمق العلاقة الوثيقة والمميزة بين البلدين الصديقين - وهي كذلك ولا تزال منذ عقود-؛ في بناء استراتيجية جديدة للقرن الواحد والعشرين تعتمد في رؤيتها على الندية في بناء المواقف والتوجهات السياسية، واستقلالية اتخاذ القرار، وتبادل المصالح على أساس الاستثمار وليس الاستهلاك، والخروج من تقليدية التعبير الدبلوماسي إلى المكاشفة والوضوح من دون مساومة أو ابتزاز، إلى جانب حرص المملكة على التعامل مع المؤسسات وليس قوى النفوذ النفعي التي مارست الضغط على صناعة القرار الأميركي. نعم لسنا بحاجة إلى الولايات المتحدة بقدر حاجتها للدور السعودي الفاعل والحكيم في المنطقة، خاصة في ملفات أمنية وعسكرية واقتصادية متنامية، وبالتالي بقيت العلاقة مع أميركا مهمة وضرورية، ولكن لغة التفاوض وطريقة إدارة المصالح تغيّرت، أو بمعنى آخر تحولت إلى رؤية جديدة مختلفة عن السابق، وهذا مؤشر على وعي القيادة في المملكة بدور التوازن في بناء العلاقات، وعدم الاعتماد الكلي على قطب أوحد يجب احترامه، ولكن لا نتوقف عند قراراته وتوجهاته من المنطقة العربية تحديداً. الملك سلمان كان واضحاً في واشنطن، ومفاوضاً نزيهاً، صادقاً، أميناً على وطنه وأمته، وبالتالي لم يحضر مستمعاً لما قد يُملى عليه، بل تمسك بمواقفه ورؤيته في التعبير عن أزمات منطقته، وتقديم الحلول لها، والتأكيد المستمر على أن الأمن والاستقرار هما الأهم في هذه المرحلة، وتبقى التفاصيل مرتهنة للوعي السياسي للشعوب، إلى جانب قدرة الملك سلمان في التأثير على المواقف الأميركية المعلنة في المنطقة وتحديداً من إيران، وكسب المزيد من التطمينات حول اتفاقها النووي على أساس التحقق في أعمال التفتيش، إلى جانب تكثيف العمل السياسي والأمني لكفّ إيران عن مغامراتها في المنطقة، وتدخلاتها السافرة في شؤون دول الجوار الداخلية. المواقف السعودية من قضايا المنطقة كانت واضحة على طاولة الحوار مع الإدارة الأميركية في واشنطن، خاصة مع إيران كدولة جارة يهمنا تطوير العلاقات معها، ولكن الأهم أن تتخلى عن مشروعها الطائفي في تصدير الثورة، وتتخلى أيضاً عن برنامجها النووي لأغراض عسكرية، واللافت في هذا الجانب وعي القيادة السياسية في المملكة بحجم إيران، والتقليل من أهمية دعايتها السياسية والعسكرية، واستعراضها أمام الآخرين بأنها قادرة على فعل المستحيل، رغم أنها فعلياً:"نمر على ورق". العالم اليوم وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية يتحدثون عن "سعودية جديدة" في عهد الملك سلمان: قوية، وحازمة، وواضحة، وتستثمر في إمكاناتها لصالح شعبها حاضراً ومستقبلاً، وتؤمن أن العدالة تنتصر مهما كانت التحديات، والتدخلات، ودولة تنشد السلم والاستقرار العالمي، وترفض التدخل في شؤون أحد الداخلية، وتمدّ يدها للمحتاجين والمنكوبين، وتقف بصدق مع قضايا الأمة من دون تمييز فئوي أو طائفي. انتهت زيارة واشنطن وبقي عمل طويل لترجمة استثمارات تقدّر بتريولوني دولار في مجالات عدة أهمها التعدين والنفط والتجزئة والبنية التحتية والإسكان والصحة والترفيه، وهو رقم كبير كافٍ لإثبات مكانة المملكة الاقتصادية، وشافع للحليف الأميركي من أن يعيد كثيراً من حساباته في المنطقة، ولكن الأهم أن يكون هناك إعلام سعودي يواكب طموحات القيادة، ورؤيتها الجديدة، ومواقفها الثابتة والمشرّفة، وعلاقاتها الدولية، وحجم استثماراتها، وأنا متفائل بأن يكون هناك إعلام سعودي نوعي في المستقبل القريب، وهذا ما لمسناه ونلمسه من رؤية عمل مختلفة داخل الأجهزة الإعلامية؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك تأثير سياسي واقتصادي ما لم يكن هناك إعلام قادر على التعبير عن تلك المواقف، والدفاع عنها، ويتصدى بالوعي لمشروعات الوسائل العابرة للحدود في التأثير على الرأي العام، ونشر الشائعات.