من تابع زيارة الملك سلمان الناجحة بكل المقاييس إلى واشنطن، ونموذج المفاوض الواثق الذي قدمه، والنتائج الهائلة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً التي توجت محادثاته، ومن شهد كيف نجحت الإمارات في استيعاب صدمة سقوط شهدائها على الأرض اليمنية، ومواصلة التزامها الدفاع عن الأمن الخليجي، استنتج بلا شك أن هناك دولتين «جديدتين» في الرياض وأبو ظبي، كسرتا بطريقة تعاملهما مع الوقائع من حولهما ومع العالم الأوسع، الصورة النمطية عنهما في الإعلام والأذهان. ففي المحادثات التي جمعته بالرئيس الأميركي باراك أوباما، خاطب ملك السعودية واشنطن باللغة التي تفهمها، أي لغة المصالح، منطلقاً من وجود قواسم مشتركة كبيرة في السياسات العامة بين البلدين، على رغم بعض التباين في وجهات النظر من بعض قضايا المنطقة. وإذ عرض الملك سلمان على رجال الأعمال وممثلي الشركات الأميركيين استثمارات تقارب قيمتها تريليوني دولار، إنما قال لهم ما معناه: إذا كنتم تريدون العقود المجزية للطرفين فهي عندنا، وإذا كنتم تبحثون عن الاستقرار الذي يخدم استثماراتكم فهو لدينا، وإذا رغبتم في التعامل مع دولة راسخة وجدية فهي قائمة على أرضنا. لكن ما لم يقله الملك وفهمه الأميركيون أنه إذا أردتم الذهاب إلى إيران والتعامل مع دولة صلاحياتها موزعة على مراكز القوى، وفيها رؤوس ثلاثة تتنازع السيادة والقرار، أي الولي الفقيه والحرس الثوري والرئيس وحكومته، فالخيار لكم، ونحن لدينا أكثر من بديل، وعلاقاتنا جيدة مع أوروبا وروسيا والصين. أما في السياسة، فأظهر المفاوض السعودي نضجاً في تكريس حق الاختلاف. وهذا النضج السياسي اعتمدته الرياض «الجديدة» بنجاح في علاقاتها الإقليمية في الفترة الأخيرة، وخصوصاً مع مصر التي قد تختلف معها في تفاصيل الموقف من نظام بشار الأسد على سبيل المثال، لكنها تغلب المصالح الاستراتيجية مع القاهرة. والأمر نفسه طبقته المملكة مع الشقيقة الصغرى قطر، فعاودت احتضانها بعد فتور. فبعدما أفهم السعوديون العالم أجمع بأن البحرين خط أحمر، عبر إرسال قوة رمزية للمساعدة في ضمان الأمن، وان المنامة ليست متروكة لحالها في مواجهة ازدياد العنف والتحريض عليه، اضطروا إلى التحرك بخطوات أكبر بكثير في اليمن بعدما تخطى التسليح الإيراني لجماعة «الحوثي» كل الحدود، وباتت صواريخهم المنصوبة عند تخوم المملكة والتي يقال إن مداها يبلغ ألفي كيلومتر، تهدد ليس فقط الرياض وجدة ومكة، بل أيضا أبو ظبي ودبي والدوحة. التضامن الخليجي المكرس في حرب اليمن أثبت أن مجلس التعاون ليس هيكلاً مشلولاً بالبيروقراطية والخلافات الصغيرة، بل جسماً فاعلاً قادراً على الرد عندما يتهدده خطر ما في شكل جماعي، أو يحيق بإحدى دوله. والإمارات التي دعت وعملت دوماً، وما زالت، من أجل حل سياسي في اليمن، وجدت نفسها مضطرة الى خوض حرب قاسية هناك، لأنها شعرت بالتهديد المباشر لأمنها، ولأنها تؤكد بذلك حقها في مواصلة المطالبة بجزرها الثلاث التي تحتلها إيران. وقناعة أبو ظبي بصحة موقفها مكنتها من التعامل بشفافية تامة مع قضية شهدائها هناك، متخطية بسرعة صدمة العدد الكبير نسبياً، ومؤكدة بأن الدماء الغالية ثمن عادل للحفاظ على المستقبل.