صورة واحدة لطفل بريء قضى غريقاً في بحر الهجرة إلى المجهول هزت العالم، وأسالت بحراً من الجليد الإنساني. صورة واحدة اختصرت محضر الاتهام للضمير العربي والإسلامي، قبل العالمي، الذي مات ولم يعد يكترث بالجرائم الوحشية ضد المدنيين الأبرياء ويغمض عينيه عن كل مشاهد العنف والقتل والتهجير ويمضي في غيه كأن شيئاً لم يكن. صورة واحدة للطفل السوري (الكردي) إيلان إبراهيم كتبي لخصت ٥ سنوات من معاناة الشعب السوري بكل أطيافه وطوائفه، وألقت الضوء على مأساة الهجرة واللجوء والتشرد وضياع أجيال بكاملها، فلم يمت بسيف الظلم والقصف والقنص، بل مات بغيره من جوع ومرض وذل وعنصرية، وفق المثل القديم القائل: «يا حريق يا غريق يا شنططة عالطريق». صورة واحدة نعت الإنسانية والعروبة والأخوة والتضامن العربي والإسلامي وكل الشعارات الزائفة التي اكتوى بها قبل ٦٧ سنة الشعب الفلسطيني المناضل والصبور، وها هو الشعب السوري يلحق به قاطعاً رحلة الألف ميل بخمس سنوات. صورة واحدة عرَّت العرب والعالم والأنظمة والشعوب والأمم المتحدة ومنظماتها وأسقطت الأقنعة لتكشف شرور الحروب وقهر الشعوب. ومن أجمل ما سمعت من تعليق مختصر يعبر عن هذا الواقع ما قاله أسير حرب بريطاني وقع في يد الجيش الياباني وأرغم على الأشغال الشاقة لمدة ١٥ سنة إلى أن انتهت الحرب العالمية الثانية وبقي حيّاً بأعجوبة، وهو الآن في الخامسة والتسعين من عمره. فقد سئل عن رأيه بالاحتفالات لمناسبة مرور ٧٠ سنة على السلام، فأجاب: «ليس المهم أن نحتفل، بل المهم ألا نكرر التجربة المريرة». نعم، هذه هي الحقيقة التي يجب أن يستوعبها العرب الذين ابتلوا بحروب عبثية كان آخرها في السنوات المنصرمة، وأوصلتهم الى حافة الانتحار والجنون والتقسيم وضياع الملايين في بلاد الشتات والعيش بذل على الفتات. ونتذكر هذه الحكمة، والعرب يعيشون حالة حزن وإحباط ممزوجة بالنقمة على مواقف العناد والإنكار و»رفض الآخر» بعدما ابتلوا بمن جرّهم كالخراف إلى مسالخ الذبح وغياهب الظلم والظلام بإرادة فرد واحد يملك قرار الحرب والسلم وأمر الصرف والنحو؟! وعلى رغم التجارب المريرة والويلات المتراكمة، فإنه ما من أحد تعلم من دروس الخيبات ولا اتعظ من تجاربه وتجارب الآخرين، ومضى في غيه على رغم علمه أن إشعال نار الحرب والفتن سهل، لكن إخمادها مكلف، كما أن البناء صعب ويحتاج إلى جهود ومال ووقت، بينما الهدم سهل ولا يحتاج إلا إلى شرارة تحريض شيطاني وأدوات رخيصة وعملاء جاهزين للتخريب في ثوان معدودات. ويبدو أن هناك قوى خفية، أو حتــــى ظاهرة، تعمل على جــر العـــرب من حرب إلى حرب وإغراقهم بالدماء من فتـــنة إلى أخـــرى مــــن أجل الهيمــــنة ونهب الثروات وبيع الأســلحة، فيما تعمل جهات أخرى على منع أي استقرار وأمان، ليعم الفـــقر وتنعدم فرص العمل لكي تنفذ مآربها والتحكم بالشــباب بإغرائهم بحفنة من الدولارات لتحويلهم وقوداً في أتون المطامع والتعصب والرضوخ لمآرب خارجية. وللأسف، فإن بعض من يمسكون بمفاتيح الحل والربط ما زالوا يستسهلون إشعال نار الفتن والحروب، غير آبهين بالنتائج المأسوية وسقوط الضحايا وخراب البلاد وفناء العباد. فالحرب ليست نزهة، والمضي بسياسة كسر العظم سيدفع ثمنه الجميع، الجلاد والضحية، تشبهاً بالمقولة الشمشومية: «عليّ وعلى أعدائي يارب»، فيما بعضهم الآخر يمعن في سياسة التوسع لإشباع الرغبة المجنونة في الهيمنة، على رغم علمه باستحالتها وبأن الحرب - أي حرب - لا منتصر فيها، لأن المنتصر مهزوم والمهزوم مأزوم. ومع أن كل من يعرف قراءة ألف باء السياسة يدرك أن كل حرب ستنتهي إلى سلام، وأن كل أزمة مصيرها الحل مهما طال الزمن بعد أن توقع الدمار وتحصد الأرواح. وهذا ما حصل أخيراً بين إيران والقوى العظمى بعد عداء استمر أكثر من ربع قرن وانتهى بالاتفاق على حل مشكلة الملف النووي وتوابعه. ومعروف أن الصراع كلّف إيران الكثير، كما كانت له انعكاسات سلبية مدمرة على معظم الدول العربية التي استخدمت كأوراق ابتزاز للضغط. ومن المنطقي أن يسأل كل عربي إيران: هل كانت في حاجة إلى كل هذه الأثمان لتتوصل إلى تفاهم مع «الشيطان الأكبر» وتتفاخر بهذا الإنجاز؟ ألم يكن في مقدورها أن تمد يدها إلى جيرانها العرب والمسلمين للتعاون بدلاً من سياسة «تصدير الثورة» والتدخل في الشؤون الداخلية العربية وإثارة الفتن وإشعال نار الحروب التي أحرقت العراق وسورية ولبنان، وأخيراً اليمن؟ ألم تكن إيران قادرة على كسب ود العرب وتأمين مصالحها بعيداً من إثارة النعرات والغايات التوسعية؟ أما العراق، فقد أقدم رئيسه المخلوع صدام حسين على الانتحار عندما جرّ شعبه إلى حروب عبثية دمرته وشرّدته وأصابت بويلاتها العرب والشعب الفلسطيني. وكانت الحرب مع إيران كارثية على رغم تقاسم المسؤولية عنها مع إيران التي بدأت توجيه تدخلاتها إلى العراق ثم جاءت الطامة الكبرى من غزو الكويت بقرار طائش، ما استدعى الرد عليه عسكرياً من جانب تحالف عربي - دولي انتهى بتحريرها واستكمل بالغزو الأميركي للعراق، والبقية معروفة بما نشهده من صراعات وتقسيم وإرهاب وتعصب وطائفية. وها نحن نتساءل اليوم: لولا هذه القرارات الجائرة، أي عراق وأي إيران كنّا نرى اليوم؟ وأي عالم عربي كنّا نعيش فيه في رخاء وأمن وأمان؟ وهذا ينطبق على الدول الأخرى، وآخرها اليمن، فلولا التمرد الذي شلّ الدولة والمؤسسات، بدعم إيراني، لما وقع المحظور. بل يمكن التأكيد أن الحوثيين كانوا حصلوا (ومعهم إيران)، بالحوار والسلام، أضعاف ما يمكن أن يحصلوا عليه بالحرب. أما لبنان الذي غرق في دماء حرب استمرت ١٥سنة وما زالت مفاعيلها قائمة، فعاد إلى الوراء عشرات السنين بدلاً من الوصول إلى ذروة النمو والازدهار لوعاش حياة سلمية طبيعية بعيداً من العناد والتعصب والتدخلات الإقليمية والعربية والدولية. ووفق الأرقام المتوافرة، فإن لبنان خسر من الحروب والاضطرابات والاعتصامات، وأخيراً ما جرى في قلب بيروت خلال شهر، أكثر بكثير مما خسره خلال فترات الاستقرار النسبي. وفي سورية أيضاً كان يمكن تجنيب شعبها الأبي كل هذه الويلات لو سادت الحكمة وانتصر العقل منذ بداية الحوادث لمواجهة المؤامرة الكبرى وردع التدخلات الخارجية ومنع تسلل المتطرفين والدواعش لارتكاب موبقاتهم وتشويه وجه الحراك الشعبي. ومهما قيل عن الخلفيات والأسباب والدوافع، فإن الحقيقة المرة التي لم يلتفت إليها تكمن في الاعتراف بأن العنف لن يحل القضية وأن الحوار هو السبيل الوحيد لإيجاد تسوية سياسية تحقن الدماء وتوقف القتل والدمار وتنقذ ما تبقى من العباد والبلاد. هذا العرض السريع يُبين لنا جوانب الحقيقة والكلفة الباهظة الثمن التي دفعتها الشعوب من دم أبنائها وحاضرها ومستقبلها ومصير أجيالها. فالحرب وحش كاسر يأكل البشر والحجر ويخلف الدمار والضحايا والمعوقين ويفتح الأبواب أمام الانتهازيين وتجار الأسلحة وأغنياء الحرب والعصابات الإجرامية. والدرس المطلوب من العرب أن يتعلموه بعدما اتعظ منه العالم أجمع، وخصوصاً أوروبا التي نسيت حروبها واتحدت، هو عدم اللجوء الى القوة إلا دفاعاً عن النفس، وأن الحوار هو السبيل الوحيد لحل أي خلاف، مع استثناء وحيد وهو الموقف من إسرائيل التي لم ولن تستوعب مثل هذا الدرس وتتعظ من خيباتها المتكررة. فبعد ٦٧ سنة على احتلال فلسطين، لم تتوقف الدولة العبرية عن ممارسة كل أشكال الظلم والقهر والتهويد والتآمر، بل يمكن التأكيد أن كل الحروب كانت هي البادئة بها باستثناء حرب عام ١٩٧٣، وهي الآن تعاني من فشلها في حروبها على لبنان وغزة، كما أن العالم بدأ يتململ من ممارستها ويقاطع بضائع مستعمراتها في الأراضي المحتلة ويقاضي قادتها وبينهم نتانياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وأصبح في حكم المؤكد أن تعنتها سيؤدي بها إلى التهلكة، مهما طال الزمن، وهي من المؤكد أنها ستدفع الثمن غالياً وستحفر قبرها بيدها إذا استمرت في انتهاكاتها الفاضحة للمسجد الأقصى المبارك. أما بالنسبة إلى العرب وحروبهم، فأثبتت التجارب أن محنتهم تكمن في أنهم عاشوا - وما زالوا يعيشون - في الماضي، تهيمن عليهم أرواح أناس يحمّلونهم مسؤولية الانتقام والثأر لحروب ومعارك ومذابح وقعت قبل مئات السنين من «داحس والغبراء»، إلى «داعش» وغيرها من الأسماء، مروراً بكربلاء وعاشوراء وقميص عثمان... وكل ما مر من بلاء. ولا أمل بالتغيير والنجاة ما دام العرب يواصلون العيش وراء قضبان سجون الماضي يندبون حظهم ويتحسّرون على أحوالهم ويتقاذفون الاتهامات عن المسؤول والمتسبب من دون أن يدقّ أحد من الحكماء ناقوس الخطر، داعياً إلى نفض غبار الماضي الأليم ورفض الاستمرار في دوامة الانتحار اليومي بالدخول في صراعات ونزاعات وحروب مدمرة تعود جذور جمرها إلى تاريخ أسود. ولا حلَّ في الأفق إلا بفتح صفحة جديدة وطي صفحة الماضي لبناء مستقبل آمن وزاهر للأجيال الصاعدة، وضخ أوكسجين هواء نظيف يثلج الصدور ويمسح آثام ما فعله السفهاء. وكما بدأت بحكمة من دروس الحروب، أختم بحكمة ثانية جاءت على لسان وزير الخارجية الأميركي جون كيري، خلال زيارته كوبا لمناسبة إعادة العلاقات بين البلدين بعد أكثر من نصف قرن من العداء والحصار، قال فيها: «الماضي رحل، والحاضر مهم، لكن المستقبل أهم»! نعم، المستقبل مهم، ومهم أكثر بعد كل الذي جرى للعرب خلال السنوات الأخيرة، إذا استوعبوا الدروس واتعظوا بالتجارب الأليمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجل الأبناء والأحفاد، والوجود والمصير، من أجل التخلص من شرور الحروب وقهر الشعوب. * نقلا عن "الحياة"