الذي لا يقرأ بيان الملك سلمان عن حادثة الرافعة، القراءة «المتعمقة»، فسيفوته الكثير الكثير، فالبيان على رغم كونه بياناً استوجبته عدالة الملك وحزمه وعزمه الذي لا يلين، ومصطفاً بامتياز بجانب دماء الشهداء، ومنحازاً للعدالة، إلا أنه كان يحمل في طياته ملامح المملكة الجديدة، والكثير من الخطوط التي ستبني في المستقبل علاقة الحاكم بالمجتمع وقضاياه وهمومه. فما هو هذا الكثير.. هذا البيان حدد علاقة الحاكم بأية قضية تمس هيبة الدولة ومكانتها، وما ينتج من ذلك من إحراج أو مواقف هي في غنى عنها، كما أنه يقول لطبقة التجار وأصحاب المال - لا نفوذ ولا مجاملة لأحد - وهم الذين توهموا أنهم قادرون على تلافي أخطائهم، بسبب العلاقة الوثيقة التي نمت طوال عقود مع شبكات إدارية ومالية وتجارية معقدة. كذلك لم يغفر البيان للمخطئ خطأه، كما أنه لم يقض عليه أو ينحَزْ ضده، بل جعله تحت سلطة العدالة، بإحالته إلى المدعي العام، ومن ثم القضاء الشرعي. أما الأهم في نظري.. أن البيان يقول إن المملكة الجديدة في دولتها الثالثة، وهي تخطو نحو المئوية الثانية من تاريخها بقيادة الملك ونائبيه، ترغب في إعادة الهندسة الاجتماعية، ولعل هذه بالذات هي قدرُ المراحل المفصلية والمنعطفات التاريخية في حياة أية أمة، إذ لا يمكن للأمة أن تتجدد وتقفز وتتطور من دون إعادة هيكلة وتغيير في طبقاتها الاجتماعية كلما كان ذلك ضرورياً، تنتقل من خلالها الدولة من حال السكون إلى حال الشباب والحيوية، وهو ما يجب ملاحظته في العهد الجديد، فالملك سلمان ومن خلفه القيادة الشابة في الأميرين محمد بن نايف، ومحمد بن سلمان، ومن خلال المجلسين التنفيذيين اللذين يقودان جناحي الأمن والتنمية في المملكة، يقودون بكل براعة التحولات التاريخية التي تعيد تموضع المملكة من جديد في الخريطة الإقليمية والمحلية. أما ما يحدث في الداخل، فهو إعادة هندسة المجتمع وتعديل تركيبته الاجتماعية من جديد، التي ترهلت واسترخت وأحبطت، وهبطت به في المجالات العلمية والاقتصادية والرياضية والفنية كافة. فالأسر والعائلات التي سادت بمالها ومكانتها الاجتماعية خلال العقود الماضية، وانتفعت من الحالة الاقتصادية غير المعقدة، وعملت من دون تحديات أو مصاعب الضرائب والرسوم، يبدو أنها في طريقها للانحسار للأسباب التالية: أولاً.. أن تلك الأسر والعائلات أخذت حظها مراراً وتكراراً طوال عقود من دون أن تقوم هي بدور المُلقم، أو الصانع لعائلات وأسر أخرى تحتها، وهو ما كانت تتوقعه الدولة منها، فاحتكرت المال والسلطة، ومنعت تدفقها نحو الأسفل، وانحصر «المجتمع» في مجموعة ضيقة من العائلات، تتبادل النفوذ والمال، ولا تعيد تدويرها في مفاصل البلد، وتحولت إلى «كنتونات مالية»، وأصبح لديها فضاؤها الحيوي ونفوذها الممتد. ثانياً.. أن كثيراً من الأسر والعائلات ذات النفوذ الاجتماعي أو التجاري، استكانت لسلطة المال وشهوة الرفاهية، فبنت الخارج وتخلت عن الداخل، وعمرت لنفسها العقارات وكنزت الأموال في كل بلاد الدنيا إلا وطنها الأول. ثالثاً.. لم تعد تلك الأسر - ولنقل البعض منها - مهتمة بتربية أبنائها التربية الوطنية الصالحة، ولا ببناء الولاء الوطني فيهم، وهو ما كشفته الأحداث والمناسبات التي عصفت بالمنطقة، فكثير من أبناء تلك العائلات هم أكثر من عرض بالوطن، بل وانضموا لأحزاب وجماعات حركية، وتبنوا أفكاراً معارضة صادمة، بينما هم يرفلون في النعيم المقيم الذي أفاضت به الدولة على آبائهم وأجدادهم. اليوم، تعاد هندسة التركيبة الاجتماعية، من خلال إدخال الطبقات المتوسطة المتعلمة إلى طبقات القرار، وحقن المجتمع بكفاءات مغمورة، وضخ الحيوية التي فقدها في مفاصله، فضلاً عن تقاسم العلم والمعرفة، والسلطة المحتكرة في مجالس المناطق والمجالس المحلية، وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، إنها مهمة تاريخية لها أبعادها العظيمة على المجتمع، لا يقوم بها إلا من يصنع التاريخ. massaaed@