2015-10-10 

مزيد من الحروب المقدسة في سورية

بيسان الشيخ

ثارت تصريحات رأس الكنيسة الروسية (الأرثوذكسية) في شأن التدخل العسكري في سورية، ووصفه بأنه «معركة مقدسة»، سخطاً واستهجاناً واسعاً وحملات تشهير وسخرية من مزاعم العلمانية وحماية الأقليات التي يدعيها نظام بشار الأسد وحلفاؤه منذ خمس سنوات، والتي بذريعتها يفتك بالأكثرية قتلاً وتهجيراً وتعذيباً من دون أي رادع داخلي أو دولي. واستفظع كثيرون أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما تمثله بلاده من رمز للشيوعية وتحمله من إرث ثقيل من الإلحاد، استعان بخطاب ديني وسلطة دينية، لتبرير قرار عسكري وسياسي بالانخراط المباشر في سورية وتسويقه داخلياً. فهو بدا لوهلة، كمثل جورج بوش في 2003، يعلن حرباً صليبية على الإرهاب في العراق، مع فارق أن بوتين استعان في جهاده المسيحي هذا، بجهاد طائفي «أقلوي» آخر، شيعي، يمثله «حزب الله» والفصائل العراقية المقاتلة إلى جانبه. ووسط تلك المعارك المقدسة كلها، وهؤلاء المقاتلون تحت راياتها، ظهر جلياً مَن الضامن الفعلي لحقوق الأقليات والمدافع عنها، وبدا البعث هزيلاً وأضعف عقيدة من أن يجد من يقاتل باسمه ولأجله. والحال أن اعتماد السلطة في روسيا على نفوذ الكنيسة ليس جديداً ولا هو بدعة من صنع بوتين. ذاك أن أحلك أيام الشيوعية، وأقواها، شهدت تقارباً صريحاً مع المؤسسة الدينية واستعانة، إن لم يكن استنجاداً، بها. فعلى أثر اجتياح القوات النازية الاتحاد الســوفيــاتي في 1941، سارع ستالين نفســـه إلى عقد روابـــط مــــع المطارنة والرهبان واستقبل بعضهم وشجعهم على تــعزيز الشعــــور الوطني/ القومي في خطوة غير مسبوقة، سواء لجـــهة إشراك رجال الدين في هذه المهمة، أو لجهة شد العصب الوطني الروسي، لا الأممي العابر للأوطان. وفي خضم الحرب العالمية الثانية، حين كانت خسائر الجيش الروسي تعـــد بالملايين مقابل تقدم واضح وإنجازات ميدانية على أرض المعركة، سمح الزعيم الشيوعي باستعادة طقـــوس العـــبادة في المنازل والصلاة في الكنائس حتى افتتح في غضون سنتين أو أقل أكثر من 25 ألف كنيسة. وذلك بعد سنوات تطهير منهجي طالت رجال الدين والمؤمنين على السواء، وبلغت حد الاعتقال في معسكرات الأعمال الشاقة، والمصحات العقلية، والتصفية المباشرة. ولا يخلو أرشيف الصحف الروسية والأدب الحديث من وصف تلك المرحلة بصور وسلوكيات أبعد ما تكون عن الصورة النمطية الشائعة للمحارب السوفياتي. فالحرب أيقظت ممارسات دينية ظنت الشيوعية أنها قضت عليها، كأن يرتدي الجنود مثلاً صليباً تحت البزة العسكرية، أو ألا يخرجوا إلى المعركة قبل نيل بركة والدتهم. واستعادت المنازل تقليد إضاءة الشموع أمام الأيقونات وعقد النذور إلى حين عودة المقاتلين. ذلك كله وغيره مما تحفل به الكتابات عن تلك المرحلة جرى في روسيا الستالينية، التي جعلت الإلحاد ديناً بديلاً في مواجهة سلطة الكنيسة ورجالها. لكن الكنيسة في المقابل، ردت الجميل بمثله. فعدلت خطابها المعادي للثورة البلشفية، وأيدت «إنجازاتها»، وتبنت مواقفها «الوطنية»، حتى راح ستالين، منذ خطاب الاحتفال بالنصر، يفرط في استخدام تعبير «وطني». وكان للحرب العالمية الثانية، تأثير كبير في إبرام عقد اجتماعي جديد بين السلطتين السياسية والدينية في روسيا الشيوعية، تعزز في مرحلة البيريسترويكا ولا يزال إرثاً متناقلاً بكل أمانة بعد عقود من سقوط الاتحاد السوفياتي. وعلى كل حال، لم يفت بوتين التذكير بالحرب العالمية والدور الروسي في كسبها خلال إلقاء كلمته الأخيرة في الأمم المتحدة في نيويورك، مشبهاً المرحلة الحالية بالأربعينات التي شهدت تعاوناً أميركياً- سوفياتياً أتى ثماره في وجه النازية، وليس ما يمنع تكرار ذلك النصر اليوم في التحالف ضد «داعش». لكن ما يفوت الرئيس الروسي ربما، أن الحرب الباردة انتهت وإن كان لا يزال هناك بعض نقاط تقاطع معها، وأن الاستعانة بالدين ورجاله ورموزه، إن لم تكن جديدة في روسيا، فهي لم تعد حكراً عليها وعلى الكنيسة كما في ذلك الزمن. فثمة كثيرون ممن ينتظرون حرباً صليبية يمن الله بها عليهم، لتعزيز جهادهم وإعداد مزيد من العدة له. * نقلا عن "الحياة" اللندنية

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه