فهد بن سليمان الشقيران
لم يعد التطبيق الإلكتروني على الجهاز الساحر بين يديك محصّنًا من الفحص والتحليل والنقد، ذلك أن المنصّات المتاحة والصفحات المبثوثة والتطبيقات المتناسلة كوّنت آيديولوجيات وضخّت شعارات، وشجّعت على أوهام، وقاومت مؤسسات أمن! لقد كوّنت التقنية ديكتاتوريتها، وصار نقد هذه الآلات واقعًا وضرورةً، مما يذكّرنا بالذي كتب حول صراعات التقنية قبل عقدين من مثل كتاب بيار بورديو «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول» عام 1996 إذ انتقد «العنف الرمزي» الذي يبثّه التلفاز، وهو انتقاد جوبه تجاهه الفيلسوف بالنقد الجارف، بل وأحيل إلى خلافٍ بينه وبين مؤسسات تلفزيونية. ومن قبل وفي أواخر السبعينات تحدّث ريجيس دوبريه عن «الميديولوجيا» في كتابه «السلطان الفكري في فرنسا» 1979، ومن بعد ذلك جدد المفهوم ومعناه وتوظيفاته النقدية بأطروحته «الكاتب» 1980، ويعني به علم الوسائط وحالات التداول المعلوماتي، فالميديولوجيا ببساطة: «لا تعتني بالمضامين المنقولة، وإنما بالمرتكز المادّي الّذي يحمل تلك المضامين وبطرائق نقلها وكيفيات تأثيرها في العقول والنّفوس».
ريجيس دوبريه في عام 2009 سيعود الحديث معه عبر «اللوموند» لقراءة الإعلام والتواصل، وذلك بعد ثلاثين سنة من أول طرحٍ له حول «الميديولوجيا» لدراسة القناعات من خلال اللوح فـ«مع الثورة التقنية الكبرى، فهناك أشير إلى الثورة المعلوماتية، وعلى هذه اللوحة الجبارة تنفى الحدود، وينعدم كل وجودٍ للدولة، ومع (الميديولوجيا) المفهوم نتساءل عن الأفكار المجرّدة كيف تصبح قوةً مادية؟»، ثم يشير بكل اهتمام إلى دور «تقنيات التنقيل التي تضمّنت تغيرات في الاعتقاد، ومن ثم تحوّلات للنظام المجتمعي».
تبثّ تلك الوسائط يوميًا ملايين المعلومات في شتى المجالات، في الدين والعلم والطبابة والفكر، ولا ينتهي الحدّ عند المقولات والحكم أو الأساطير والأبيات الشعرية، هذا فضلاً عن الخرافات والأباطيل، ضمن انفصالٍ بين المعلومات وآلية إدارتها وخطّ إنتاجها ووظيفة تحويلها أو فهمها حوّل العقول المتلقية إلى حاويات بكماء لا تستطيع التعامل مع الفوضى المعلوماتية التي تحيط بها، فتكتفي بإعادة التدوير، أو الحفظ، وربما الاكتفاء بالاطلاع مع الإضراب عن الفهم. تجاوزت التقنية صراعات التلفزيون القديمة، أو البدايات الأولى للتعامل مع الإنترنت وشبكته، لتصل إلى التحدّي الأبرز المتعلّق بتأسيس ديكتاتورية تقنية، نلمحها في الاستعمال الإرهابي للتقنيات، والضخّ المتطرف أو السيولة الوعظية التي جرفت التطبيقات ذات الشعبية في أنحاء العالم. فالتقنية بمعنى ما حالة بثّ وإرسال، والرقاقات الحافظة للمعلومات والألواح الساحرة الباهرة بمحاولة تحقيق القناعات وتثبيتها لها امتدادها في تاريخ التهويل للأشياء واعتقاد قيمتها أو حصانتها ضد الانتقاد أو النقض أو المساءلة فضلاً عن التمحيص والإلغاء. التقنية بكل مفاجآتها الكبرى لا تزال تتجاوز الواقع وتتحدى المؤسسات والإمكانات بسبب طريقة الالتقاء بينها وبين المجتمعات بكل أطيافها، وتبدو معضلتها أوضح وأفصح في المجتمعات العربية والإسلامية، حيث ضعف المنظومة التشريعية، وفقر المواد القانونية، والقحط المدقع في تشكيل مفهوم «الحرية» وحدودها وأنماط استثمارها والتمتع بها بوصفها الحق الفردي المكفول نظامًا وقانونًا.
تحتوي التقنية على ثغرات ومساحات متاحة تستطيع أن تؤسس عبرها الخلايا الإرهابية، والمجموعات الإجرامية، وكذلك التجمعات السياسية، وبهذه الطريقة استثمرت التقنية سياسيًا طوال السنوات الماضية، وخُدع العالم بهذه الأزرار والألواح وكأنها من خلقت الواقع الجديد، بينما التقنية أسهمت في التحشيد ورسم الأوهام حتى تحوّلت «الحرية» الذهنية المأمولة أو «إسقاط النظام» إلى عبارة شعرية ذات إيقاعٍ مبهج نفسيًا كالأناشيد القومية النضالية، وليس غريبًا أن يعاد تكرار هذه العبارات في مظاهرات بلبنان للاعتراض على «النفايات»، فكل اعتراضٍ لأي موضوع يستعاد ذلك الشعار الفقير ثوريًا والمعتوه واقعيًا.
في حوارٍ مع المؤرخ جاك سيميلين حول «مقاومة الديكتاتوريات» اعتبر أنه «بعد الإنترنت تستعاد مجددًا أدوار الصحافة السرية وكذا المذياع لتحقيق الأهداف الانقلابية، كما في الكتلة السوفياتية، حينما استوعب الإعلام سياق المقاومة.. في العصر الحديث مع الإنترنت، الفارق أن الفرد استطاع أن يخلق المعلومة بنفسه». ثم يسترسل في الحديث عن «المقاومة المدنية» و«العصيان المدني». الإشكالية الكبرى التي تعترض النقاش حول التغيير انطلاقًا من وسائل الثورة التقنية جزء منها يحكمه الانبهار من بعض المحللين من كبار السنّ بهذه التقنيات وصراعاتها، وقد قابلتُ أحد المفكّرين العرب الذي طرح كتابًا حول التغيير العربي عبر الوسائط التقنية، وهو بالكاد يستطيع أن يستخدم هاتفه الجوال، لكنه لم يملّ من التغني بـ«الناشط» ممثلاً بوائل غنيم الذي أسقط حسني مبارك، هكذا بتحليلٍ متناهي السهولة أن تحال الأحداث الكبرى إلى عاملٍ واحد منطلقه الجهل بالتقنية والانبهار بها معًا، بينما الواضح وبجلاء أن التقنية أسرة، ويمكن أن تستغل وتستثمر لخلق القلاقل كما تقدم، وفي تدوير المعلومات، لكنها تطرح تحدياتٍ بسببٍ من راهنيتها وجدّتها، وتطرح المخاطر للحد من تسريعها بخلق اعتلالاتٍ مبكّرة في مؤسسات الدول ومقدّراتها.
كل التقارير الدولية المتعلّقة بحضور الإرهاب عبر الإنترنت تشير إلى الاستثمار المتنامي من قبل التنظيمات المتطرّفة. إن التقنية هي حال من تطوّر «الوسيط» من الراديو والتلفاز إلى التطبيق السريع، الفرق في نوعية التفكير الاجتماعي بها، وإذا كان مارتن هيدغر يقول إن «العلم لا يفكّر» فإن التقنية «لا تفكّر» أيضًا، فالضخّ المبثوث في أي تطبيق هو بعث لما في الواقع من أدواء، والجرم كل الجرم أن تكون أدواتنا القانونية كسولة نسبةً إلى نشاط التقنية المتصاعد.
التقنية ليست نعمة ولا نقمة، إنها الوسيط المتطوّر الأكثر سحرًا، وهو ليس بشيطانٍ ولا ملاك، وإنما يشرح قاع ولون وشكل المجتمع الذي يتحرّك فيه، وينبشه ويخترق سدوده وحدوده، ومن دون وعي اجتماعي بمعناها وبوظيفتها ستبقى ميدانًا للتخريب والعنف، والتيه والدمار، وترسيخ الجهل، وحراسة ما هو قائم بل وتكريره وتلميعه، وهذه هي الكارثة.
*نقلاً عن صحيفة "الشرق الأوسط"