2015-10-30 

بين امرأتين

 

زاهي وهبي

 

إذا اعتبرنا الفنّ في بعض جوانبه نوعاً من التعويض عن نقصانٍ ما، أو عن خسارات وانكسارات وخيبات، وما أكثرها في الحياة، نستطيع أن نفهم لماذا يكتب الشاعر لامرأةٍ رحلت أكثر مما يكتب لامرأةٍ أقبلت. نكتب عن الشاعر الرجل من دون تغييب المرأة الشاعرة التي من البديهي أن تكتبَ الرجلَ مثلما يكتبها، وان كنّا من دعاة أن الأنوثة أكثر إلهاماً من الذكورة لأسباب كثيرة منها ذاك التماثل العجيب بينها وبين الطبيعة في تجددها وخصوبتها وتعاقب فصولها، بل نذهب الى القول إنها مرحلة من الخَلق متقدمة. ولئن كنّا لا نقع في الشعر العربي إلا على حالات نادرة واستثنائية من بوح المرأة الصريح ومن مكنوناتها تجاه شريكها في الحياة الدنيا، فلأنَّ السلطة الذكورية والنظام الأبوي استطاعا للأسف وعلى مَرِّ الأيام طمس صوت المرأة وقمعه بحجج وذرائع شتى، بعضها بدأ يتهاوى ولكن ببطء شديد.

إذاً، يكتب الشاعر الخسارة والفقدان أكثر مما يكتب النشوة والانتصار. لِمَ؟ ربما (دائماً نتجنب الأجوبة القطعية الجازمة) لأنه حالَ وقوعه في الحُبّ يعيشه عِوَض أن يكتبه. بين الحُبّ والكتابة عن الحُبّ نختار الحُبّ، بين القُبلة ومجازها تكون القُبلة أشهى، وهذا ما يَصحُّ في حالات وتجارب واختبارات كثيرة مماثلة. مرَّات يكون الواقع أجمل من الخيال لكن الخيال الشعري ينتصر على الواقع بأنه يؤبِّد اللحظة الواقعية. فما نعيشه ونحياه في لحظات أو سنوات تمنحه القصيدة عمراً لا نهاية له. كم من السنين أحبَّ المجنون ليلاه؟ أياً كانت مدة تلك الحكاية في الواقع فإن قصائده جعلتها تبقى وتستمر وتتواصل عبر الزمن، والحالُ نفسها تَصحُّ في قصص حُبٍّ وعشقٍ على امتداد المعمورة بإختلاف ثقافاتها وطقوس عيشها. من هذا المنطلق نفهم قول محمود درويش في جداريته: «هَزَمَتكَ يا موت الفنون جميعها، هَزَمَتكَ الأغاني في بلاد الرافدين، مِسلَّة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبدٍ هَزَمَتكَ وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنك الخلود».

لعل قيساً ما كان نظم حرفاً لو قضى وطراً من ابنة عمه، لكن الحجب والمنع والحرمان أشعلت في جوفه نيران الشعر فتطايرت شرراً على هيئة قصائد حفظتها الأجيال المتعاقبة. وقديماً قالت العرب «كلُّ ممنوعٍ مرغوب»، عدم الوصول في الشعر أمتع من الوصول، متى وصلتَ تستكين وترتاح، بينما يولد الشعر من عدم الاستكانة، من القلق الذي عاشه المتنبي حتى ظنَّ الريح تحته. يَسْكُنُ الشاعر امرأة القلب لكنه يكتب امرأة الخيال. هذا لا يعني أن لا أثر ولا دور لامرأة الواقع (الحبيبة، المعشوقة، الزوجة) في ولادة القصيدة، على العكس تماماً لا يستطيع الشاعر اجتراح قصيدة عشقٍ بلا امرأة تسكنه ويسكنها، لأنه ينطلق من مادة خام عمادها ما يعيشه ويختبره حقاً لِيحلّق في فضاءات الخيال الشعري المترامية. فالشاعر الحقّ متى كتب قصيدة حُبٍّ ظنَّ كلُّ عاشقٍ أنها كُتِبَت عنه ولأجله، وكلما اقترب الشاعر من ذاته كلما صار أكثر قرباً الى قارئه.

خلاصةُ ما نود قوله أن لا فصلَ قطعياً بين امرأة القلب وامرأة الخيال. جاء في القرآن الكريم «ومن آياته أنْ خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة...» (الرّوم، ٢١). السُّكنى والسَّكينة تبعثان في النفس كثيراً من الطمأنينة والاسترخاء لكنهما تكبحان الجموح والتوثب ولا توقدان ناراً في حطب قصيدة العشق المحتاجة شغفاً وشوقاً ولهفة، لذا تبدو المسافة ضرورية ومطلوبة بين كل حبيبين لِتبقى نار القلب متقدة فلا تخمدها مياه اللقاء. ألم يقل جميل بثينة: «يموت الهوى مني اذا ما لقيتها / ويحيا اذا فارقتها فيعود»؟ إذاً، لا بد من مسافة، شوق، لهفة، احتراق ولهيب كي لا يموت الهوى وتموت معه قصيدته. لذا قلنا أعلاه أن الشاعر يكتب لامرأة رحلت أكثر مما يكتبُ لأخرى أقبلت. مثلما يبكي الطفل أشياءه التي كسّرها بنفسه، يبكي الشاعر امرأةً خسرها محاولاً إستعادتها بالمجاز والاستعارة.

لا امرأة القلب تحلُّ مكان امرأة الخيال ولا امرأة الخيال تغني عن امرأة القلب، ثمة علاقة جدلية بينهما، وثمة مسافة دائمة بين المرأتين يحاول الشاعر ردمها أو جَسّرها بالشعر والقصائد: في غيابكِ أرتدي عطرَكِ/ ألوِّنُ الوقت وأغنّي/غيابكِ فراغٌ أبديٌّ/ فجوةٌ في الدهر/ لا يردمُها شِعرٌ ولا غناء.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه