خيرالله خيرالله
في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كانت لي جلسة في عمّان في منزل احد كبار السياسيين الأردنيين من الذين لعبوا دورا في مراحل مفصلية من التاريخ الحديث للمملكة الأردنية الهاشمية.
لسبب لم اعد اذكره، نظر اليّ السياسي الأردني وقال لي ان الكرسي الذي تجلس عليه، جلس عليه قبلك احمد الجلبي الذي كان يقوم بزيارة لعائلتي وذلك قبل ساعات قليلة من هربه من عمّان. شرح لي السياسي الأردني، وكان صديقا، كيف جاء الجلبي، الذي توفّى في بغداد قبل ايّام، إليه في زيارة خاطفة وكيف غادر بعد ذلك عمّان الى الخارج في ظروف غامضة وذلك مباشرة بعد انكشاف فضيحة «بنك البتراء» التي هزّت الأردن واقتصاده في العام 1989.
كان ذلك السياسي الأردني، خريج الجامعة الأميركية في بيروت، من اعنف المعارضين لصدّام حسين ونظامه ومن بين الذين عملوا ضدّه بكلّ ما يستطيعون في مرحلة كان الشارع الأردني متعاطفا، باكثريته، مع النظام العراقي السابق.
روى السياسي الأردني في الجلسة قصصا عن احمد الجلبي وكيف استطاع مغادرة الأردن في اللحظة المناسبة بعد صدور مذكرة توقيف في حقّه. كشف لي انه خسر معه مبلغ مليون دولار، كان حصيلة ما جمعه هذا السياسي الأردني الذي عمل سنوات في المجال المصرفي نيويورك. اكّد أنّه خسر مع الجلبي جنى عمره وقتذاك وذلك بعد ان اقنعه الرجل بتوظيف كلّ ما لديه في صندوق استثمارات كان يديره. سألت عندئذ السياسي الأردني، وكانت زوجته الى جانبه، ماذا تفعل اليوم في حال كان لديك مليون دولار اخرى تريد توظيفها؟ اجابني بالحرف الواحد انه «سيعيد توظيفها لدى احمد الجلبي». كان يريد ابلاغي فقط كم كانت لدى الرجل قدرة على الإقناع وعلى التأثير في الآخرين.
مقارنة بالسياسيين العراقيين الآخرين ابان عهد صدّام او قبله، اي في المرحلة الممتدة من صيف العام 1958، تاريخ الإنقلاب العسكري على العائلة المالكة الهاشمية، وحتى يومنا هذا، لا يوجد سياسي عراقي لعب دورا في حجم الدور الذي لعبه احمد الجلبي. اذا وضعنا جانبا بعض الزعماء الأكراد مثل مسعود بارزاني، كان الجلبي يتلاعب بالآخرين. لم يكن من مجال للمقارنة بين قدراته العقلية وقدرات هؤلاء.
في النهاية، لا مفرّ من الاعتراف بأنّه كان في اساس عمليتين محوريتين تصبّان في خدمة مشروعه النهائي الذي لم يكن من امل في ان يتحقّق. لم يكن لديه من امل في بلوغ ما يريد بلوغه، في الجانب الشخصي، لسبب في غاية البساطة يعود الى انّه لم يمتلك يوما قاعدة شعبية في العراق. ولذلك، لم يستطع حتّى ان يكون، بعد 2003، على رأس كتلة نيابية ذات شأن.
كانت العملية المحورية الأولى التي اتقنها احمد الجلبي تتمثّل في اللعب مع الإيرانيين. اما العملية الثانية فتمثّلت في تحقيق التقارب الأميركي ـ الإيراني والتعاون بين الجانبين تجاه العراق. عمل على ذلك، خصوصا بعد تمكّنه من اقناع ادارة بوش الابن بضرورة التخلّص من صدّام حسين ونظامه العائلي ـ البعثي.
مرّة اخرى لعبت القدرة على الإقناع لدى احمد الجلبي دورها في جعل الإدارة الأميركية تسير في مشروع خطّط له بنفسه. استطاع عالم الرياضيات، خريج جامعتين اميركيتين مرموقتين، اقناع ادارة بوش الابن بالعلاقة بين صدّام حسين و«القاعدة»، علما ان هذه العلاقة ليست قائمة باي شكل من الإشكال، الّا في رؤوس الذين كانوا يبحثون عن عذر، اي عذر، مهما كان واهيا لتبرير الحرب على العراق. كان لا بدّ من التخلّص من صدّام حسين ونظامه، لكن السؤال الذي سيبقى مطروحا هل العراق ما بعد السنة 2003 في وضع افضل؟ المطروح الآن مصير العراق وما سيبقى من العراق مستقبلا.
من دون احمد الجلبي، لم يكن ممكنا حصول التقارب الأميركي ـ الإيراني والتعاون في العمق الذي قاد الى حرب 2003. اخذ احمد الجلبي كلّ المعارضين العراقيين الى مؤتمر لندن في ديسمبر 2002 وذلك كي يضعوا قاعدة لاتفاق بينهم برعاية اميركية ـ ايرانية. كان احمد الجلبي الذي جاء بالجميع في طائرة اقلعت من طهران يدير في الواقع المؤتمر الذي اسّس لمرحلة ما بعد الحرب، من الناحية النظرية. كان المؤتمر في حاجة الى المكوّن الشيعي. جاء الجلبي بهذا المكوّن بشخص الراحل عبدالعزيز الحكيم (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية). جاء عبد العزيز الحكيم وقتذاك الى العاصمة البريطانية من طهران في طائرة واحدة كان عليها ايضا جلال طالباني ومسعود بارزاني وآخرون كثر.
كان اي خلاف يحصل داخل المؤتمر يُحال على احمد الجلبي الذي عرف كيف يستخدم النفوذ الإيراني والغطاء الأميركي لتحقيق مبتغاه. خرج مؤتمر لندن بالوثيقة الأخطر بالنسبة الى مستقبل العراق. تضمنت هذه الوثيقة عبارة «الأكثرية الشيعية في العراق» ارضاء لإيران، و«الصيغة الفيديرالية» ارضاء للإكراد. الى الآن لا يزال العراق يعاني من نتائج الخروج بهذه الوثيقة التي جعلت مستقبل البلد في مهبّ الريح، خصوصا بعد خروج ايران المنتصر الوحيد من حرب 2003.
تلاعب احمد الجلبي بالأميركيين. عرف تماما كيف يُتّخذ القرار في واشنطن. عرف خصوصا كيف يستفيد من اي فرصة تبرز على ارض الواقع. لذلك جعل بول ولفوويتز نائب وزير الدفاع يطرح مباشرة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 فكرة «الذهاب الى العراق». ليس معروفا الى الآن لماذا طرح ولفوويتز الفكرة في الاجتماع الأول الذي عقدته القيادة الأميركية في كامب ديفيد بعد غزوتي واشنطن ونيويورك اللتين كان اسامة بن لادن و«القاعدة» خلفهما. العارفون يقولون ان نائب وزير الدفاع كان يتكلّم وقتذاك باسم احمد الجلبي الذي ما لبث ان اخذ الولايات المتحدة الى كارثة العراق، وذلك قبل الانتهاء من حرب افغانستان. خاضت الولايات المتحدة حربين في الوقت ذاته بناء على نصائح احمد الجلبي!
في الداخل العراقي، لم يعد احمد الجلبي يعرف حدود عبقريته. لم يعد قادرا على استغلال اللاعبين الكبار، بما في ذلك الولايات المتحدة التي بدأت تدرك انّه ضلّلها. الأخطر من ذلك كلّه، انّه لم يدرك، او كان مدركا اكثر من اللزوم، من جهة اخرى، معنى سقوط العراق في يد الميليشيات المذهبية التابعة لإيران ومعنى التدخل الإيراني المباشر في تفاصيل التفاصيل العراقية.
لا شكّ ان احمد الجلبي كان عبقريا، كما كان شخصيّة جذّابة. ولكن هل استخدم عبقريته من اجل البناء ام من اجل الهدم؟ كان على حقّ في عدائه للنظام الذي اقامه البعث في العراق ولكن هل النظام الطائفي الذي ساهم في قيامه افضل... ام كلّ ما في الأمر انّه لم يعرف في اي لحظة ان في استطاعة آخرين استخدامه ايضا؟ تكمن مأساة احمد الجلبي في ايمانه بانّه قادر على استخدام الآخرين دائما وبموجب شروطه. بقي مقتنعا بذلك، الى ان جاء من يستخدمه ويهمّشه. اين نفوذ احمد الجلبي مقارنة مع نفوذ الإيراني قاسم سليماني في العراق؟
مجرّد مقارنة بين النفوذين، في السنوات القليلة الماضية، تقول كلّ شيء وتختصر كلّ شيء في عراق اليوم...