الاتحاد - اعتقدت بعض الجماعات والتنظيمات الدينية صاحبة المشروع السياسي، أن أتباعها يشكلون «العصبة المؤمنة»، فضيقت بهذا الإيمان ليقتصر على أتباعها بوجه عام، ويقصره كل طرف منهم على جماعته بوجه خاص، في إطار تفسير لفكرة «الفرقة الناجية» أو «جماعة المسلمين». وتصبح العصبة المؤمنة، هي تلك التي تعتنق أفكار أي من هذه الجماعات، وتسعى إلى تطبيقها في الواقع المعيش. ومن الطبيعي ألا يقتصر مفهوم العصبة عند هذه الجماعات على تصور فضفاض، تترك فيه الحرية للأفراد كي يتحركوا كيفما شاءوا وهم يعتنقون أفكاراً معينة، إنما تأخذهم إلى الارتباط بمشروع سياسي، ثم تنظيم شبه عسكري. فجماعة «الإخوان» تتبنى منهجاً يبدأ مع الفرد المنضم إليها بتربية دينية، يدرس فيه علوماً إسلامية، ليجد نفسه منخرطاً في برنامج لـ «التربية السياسية»، لينتهي الأمر بتربية «شبه عسكرية»، حيث تظهر أدبيات التنظيم الخاص من بيعة وثقة وطاعة وانضباط وكتمان وسرية وجندية، بالإضافة إلى التدريبات البدينة والألعاب القتالية والرحلات الجهادية، كالسير مسافات طويلة مع قليل من الزاد والماء، وهذا ما كشفه المنشق عن الإخوان سامح عيد في كتابه «قصتي مع الإخوان»
|
|
وحتى تحافظ هذه «العصبة» على تماسكها، فلا بد لها من أن تمارس ما يسمى بـ «العزلة الشعورية» التي تعني أخذ مسافة نفسية من السياق الاجتماعي، والنظام الأخلاقي، والتصور القيمي السائد، وبالتالي فهي تصبح أشبه بحصن منيع قائم في لاوعي مريدي وأتباع الجماعات الدينية السياسية، وأقرب إلى إطار ديني اجتماعي يرسم حدود علاقتها بالوسط الاجتماعي الذي تنظره إليه على أنه مجتمع جاهلي ورغم أن سيد قطب لم يقصد في حديثه عن العزلة الشعورية هجر المجتمع والقطيعة معه، فإن كلامه عن «المجتمع الجاهلي» أدى بالفعل إلى قيام المتأثرين بأفكاره بعزل أنفسهم عن الناس، والعيش في «جيتو» نفسي، بعد أن صدقوا أنهم هم الأطهر روحاً، والأطيب قلباً، والأرحب نفساً، والأذكى عقلاً. وهنا يقول عمر عبيد حسنة في ثنايا كتابه «مراجعات في الفكر والدعوة والحركة»: «لا شك أن الحكم على مجتمعات المسلمين اليوم بأنها مجتمعات جاهلية، أورث اعتقاداً داخلياً عند كل جماعة بأنها هي الإسلام أو المتحدث الرسمي باسمه، وما عداها جاهلي، وأنها جماعة المسلمين، وليست جماعة من المسلمين، عملياً، وإنْ أنكرت ذلك نظرياً، حتى أن الكثير من الجماعات التي ضيقت مفهوم الأخوة الإسلامية الشامل، لم تطق توسيع دائرة المشاركة، والخروج بالدعوة، من نطاق التنظيم والجماعة، إلى نطاق المجتمع والأمة، وإحداث التفاعل بينها وبين الإسلام، ما جعل منها أجساماً منفصلة عن جسم الأمة، ومعاناتها وأهدافها».
وإذا كان قطب قد رأى أن العظمة الحقيقية هي مخالطة الناس، والتسامح معهم، والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوى أفراد الجماعة أو العصبة المؤمنة بقدر ما يستطيع أفرادها، فإنه حين دعا هؤلاء الأفراد إلى عدم التخلي عما سماها الآفاق العليا والمثل السامية، أو تملق هؤلاء الناس، والثناء على رذائلهم، فإنه حول اختلاط أفراد الجماعة مع الناس إلى مسألة شكلية، تقوم بالأساس على المداراة والمجاراة ثم الخداع والاستغلال.
ورغم أن حسن البنا لم يحدد للإخوان هيئة خاصة تميزهم عن غيرهم في مسألة «الهدي الظاهر»، بل نهى بعضهم عن إطلاق اللحية حتى لا يكون بينه وبين سائر الناس حاجز، إلا أنه وابتداء من سبعينيات القرن العشرين بدأ الإخوان يتحللون من هذه التعاليم، ومع التأثر بالسلفية الدعوية والجهادية معاً، أخذوا يهتمون بوجود مظهر مختلف عن بقية المجتمع، بزي فضفاض للنساء، وإطلاق بعض الرجال لحاهم، والأخطر من المظهر، راح يتملكهم غرور بأنهم مصطفون أخيار، وأنهم فوق سائر المسلمين. وبمرور الوقت، تحولت ما رأت في نفسها «العصبة المؤمنة» التي يجب أن تمارس «استعلاء الإيمان» على سائر الناس، بمن فيهم المسلمون، إلى عصابات تمارس القتل والتخريب والتدمير والتآمر على مجتمعاتها، متوهمة أنها فوق المساءلة.