الرياض - العقوبات ترفع عن إيران سواء في ذلك عقوبات الأمم المتحدة أو عقوبات أميركا والاتحاد الأوروبي. إيران الآبقة دلفت مرغمة إلى بيت الطاعة، وحكومة روحاني تقدم نفسها على أنها حققت شيئا للشعب الإيراني، أما ولاية الفقيه فتعلن مواقف علنية متشنجة للمحافظة على زخم الثورة، بينما تبارك ما تحقق من خلال بعض رجالها، ولكن تتعامل معه بحذر شديد؛ فالمرشد وأذرعة سلطته كالباسيج والحرس الثوري، ونواب المرشد في جميع محافظات إيران ينظرون بعين الرضا لرفع الحصار، وفي الوقت ذاته لايستطيعون التنصل من الإرث الثوري الذي يعلي شعار الموت لأميركا باعتبارها الشيطان الأكبر في هذا العالم.
وزير الخارجية الأميركي جون كيري لعب دورا محوريا في رفع العقوبات عن طهران في محاولة لإنقاذها من الحصار السياسي والعزلة التي تواجهها في محيطها، وبالتالي تأهيلها للوقوف في وجه التحالف العربي - الإسلامي بقيادة المملكة.
إيران نفذت التزامها بتفكيك مفاعلاتها النووية وقلصّت بشكل كبير مخزونها من اليورانيوم المخصب، وباتت مستحقة للمكافأة. الرئيس باراك أوباما بمساعدة دول 5+1 أعاقوا تصنيع القنبلة النووية الإيرانية التي كانت على وشك التدشين خلال أسابيع، وتركوا الباب مواربا للوصول إلى هذه الغاية بعد سنة أو عدة سنوات على مرأى ومسمع من المفتشين الدوليين شريطة تطوّر رضا أميركا عن دور إيران كشرطي جديد في المنطقة. ولكن المؤكد أن القنبلة النووية الإيرانية وكامل الرضا الأميركي لا يمكن أن يتحققا بوجود ولي الفقيه.
عراب الاتفاق النووي مع إيران جون كيري صرح بعد رفع العقوبات أنه "نتيجة للإجراءات المتخذة منذ يوليو الماضي، فإن الولايات المتحدة، وأصدقاءها، وحلفاءها في الشرق الأوسط، وفي العالم بأسره هم اليوم أكثر أمانا لأنه قد تم تخفيض تهديد السلاح النووي الإيراني" .
ويلاحظ في النص الإنجليزي أنه استخدم كلمة reduce (تخفيض)، ولم يستخدم eliminate أي إزالة، مع لعب السياق دورا في دلالة المفردات. أما المتحدث باسم الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي بول راين فعلق على رفع العقوبات بقوله "اليوم، سوف تبدأ إدارة أوباما رفع العقوبات الاقتصادية عن الدولة الرائدة عالميا في رعاية الإرهاب".
وبعيدا عن تباين مواقف الديمقراطيين والجمهوريين فإن أميركا تمر بأضعف مراحلها منذ نهاية الحرب الباردة، فهي لم تعد قادرة على الوفاء بشرط التفوق الاستراتيجي الذي يخولها خوض صراعين متزامنين في مكانين مختلفين، كما أن تحالفها الشامل مع دول في أوروبا والشرق الأدنى والأوسط والأقصى قد فشل في حماية العالم من الأخطار الأمنية المحدقة وبخاصة الإرهاب والتنمر الروسي.
وبالمثل فإن أميركا لم تستطع تشكيل حلفاء جغرافيين أقوياء يتولون نيابة عنها حماية مصالحها في مناطقهم. الاستراتجية الدفاعية الأميركية التي أعلنت عام 2012م بُنيت على فرضيات خطيرة منها أن الشرق الأوسط بدأ يستقر، ولذلك فقد آن للانفاق المبالغ فيه على أمن هذه المنطقة من العالم ونزاعاتها أن يتوقف. وثانيا أن أوروبا آمنة ويمكن لها أن تتحرك بشكل أكثر قوة للإسهام في المحافظة على الأمن العالمي، مما يتيح لأميركا أن تتخفف من إنفاقها العسكري.
الواقع أن هاتين الفرضيتين سقطتا بامتياز؛ فالشرق الأوسط لم يستقر، إذ أدى تلكوء أميركا في موضوع سورية إلى تدميرها وتهجير ملايين السوريين وتمكين نظام الأسد الذي شكل جسرا للمصالح الإيرانية بين العراق ولبنان.داعش هي أيضا نتيجة للفرضيات والتصرفات الأميركية الخاطئة. أما روسيا فانتهزت التراجع الأميركي بمد نفوذها في أوكرانيا واقتطاع أراض أوروبية، ولاحقا بتدخلها في سورية، ولم تتوقف روسيا عند هذا الحد وإنما قدمت للعالم قوتها وترسانتها العسكرية في تحد للقوة الأميركية الصناعية والعسكرية.
وبناء على المعطيات على الأرض فإن أوروبا ليست آمنة لتحمي نفسها بدون أميركا، ناهيك عن قدرتها على تحمل مسؤوليات الأمن العالمي، ما أدخل أميركا في أزمة؛ فلا هي قادرة على مواجهة الروس في الشرق الأوسط وأوروبا، ولا هي تملك الإمكانات المادية للتخلي عن استراتيجيتها الدفاعية آنفة الذكر.
الرئيس باراك أوباما في خطابه الأخير عن حالة الاتحاد أمام الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب مساء الثلاثاء 12 يناير 2016م أعاد التذكير بأن أميركا هي الأقوى عالميا. والقوة ليست دائما بالسلاح، وإنما بالقدرة الأخلاقية على تسخير القوة لخدمة الخير. والقضية السورية كانت اختبارا أخفقت فيه القوة الأخلاقية للولايات المتحدة ما سمح بتدخل روسيا إلى جانب النظام، وهي قوة لا تحتكم إلى أية قيم إنسانية أو أخلاقية، وفي ذات السياق تحتضن أميركا إيران التي تقتل السوريين والعراقيين وتعبث بأمن واستقرار المنطقة.
أميركا تحت وطأة الواقع شديد التعقيد والفشل الذريع لاستراتيجيتها الدفاعية تعيد بناء تحالفاتها بتأهيل إيران لإحداث توازن مع الدور المتنامي للمملكة العربية السعودية ودول الخليج بعيدا عن السيطرة الأميركية. إيران التي تحتفل سنويا منذ عام 1979م بيوم الطالب الذي يلزم فيه جميع الطلبة الإيرانيين بإظهار فرحتهم وتقديرهم لذكرى احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية في طهران هي الشريك المأمول لأميركا.
إن افتراض أن إيران هي أمل أميركا في المنطقة يعتريه الكثير من التعقيدات؛ فأميركا تعول على صراع بين ولاية الفقيه ومؤسسات الدولة في إيران تكون نتيجته لصالح نظام علماني يخلف الولي الفقيه الحاكم بأمر الله، وفي تلك الحالة سيكون السلاح النووي مطلبا وستحصل عليه إيران العلمانية. المرشد وفريقه ليسوا بتلك السذاجة فهدوء الداخل الإيراني، والمحيط الإقليمي لإيران يعنيان نهاية حاكمية ولي الفقيه تماما.
الداخل الإيراني ليس واحدا، فالذين شاركوا في الثورة الإيرانية على نظام الشاه مازالوا أحياء، وأبناؤهم يجترون مرارة الخذلان بعد مصادرة ثورتهم وتضحياتهم لصالح ولاية الفقيه التي لم تكن في يوم من الأيام حلما لهم، وهناك فعاليات كبيرة صامتة، وتحاول ضرب الثورة بالثورة، فأيدي خاتمي ورفسنجاني، وموسوي، وكروبي ملطخة بدماء الإيرانيين، ولكنهم مرحليا يملكون شعبية ويشكلون واجهة للتغيير إلى حين. إن رفع العقوبات عن إيران بقدر ما يفتح باب العالم لإيران على مصراعيه، فإنه أيضا يفتح ميدانا لصراع داخلي حاد سينتهي بزوال ولاية الفقيه وتعديل الدستور.