العرب - ما أظهرته المعارضة السورية التي شَكلت في الرياض هيئتَها التفاوضية مع النظام الأسدي من مفاجأة بما حمله وزير الخارجية الأميركي جون كيري من مطالب تترجم تماما شروط الاحتلال الروسي لسوريا لبدء أي مفاوضات، يظهر كم السذاجة، إن لم يكن تظاهرا بالسذاجة، التي تتميز بها قوى المعارضة السورية المكرسة، حيال المداخلات الدولية والإقليمية التي أحاطت بالثورة السورية منذ انطلاقتها قبل نحو خمس سنوات.
خمس سنوات كانت حقبة زمانية واسعة لتسمح للنظام الأسدي وحلفائه القريبين والأبعدين، ولجميع مراكز وأطراف النظام العالمي الذي صدمته انتفاضات الشعوب في البلاد العربية ذاتَ سيدي بوزيد وما تلاها من هرب أول رئيس في منظومة الفساد والتسلط العائلي المافيوي، أقول كانت حقبة سمحت لهؤلاء بجعل الثورة السورية ومآلاتها الراهنة تمثلان درسا في الطاعة لكل شعب يمكن أن يتجرأ على جلاديه. وهذه الحقبة الزمانية لم تمتد إلى الآن لولا التواطؤ الأميركي وتواطؤ مجمل النظام العالمي مراكز وأطرافا، هذا النظام الذي ترعبه الثورات لن يدخر وسيلة لسحقها وتشويهها ولسحق الشعوب التي تصر على إنجاز مهامها التاريخية.
ليس مفاجئا أن تظهر المعارضة السورية تفاجؤها بالموقف الأميركي، وهي التي راهنت منذ البدء على التدخل الخارجي والغربي وتحديدا الأميركي ليسقط الأسد وينصبها بديلا عنه. فهي لم تراهن يوما على جدارة الشعب السوري ومقدرته على التغيير، وربما يكون جبنها وهزال موقفها وعداؤها للتغيير الجذري الذي يتوسله الشعب السوري هي الدوافع الخفية التي جعلت هذه المعارضة ترهن نفسها ومستقبلها السياسي لوهم أن أميركا ستمارس في سوريا ما سبق أن مارسته في العراق، لأنها لا ترى اختلاف الأحكام وتغيرها “بتغير الظروف والأحوال”، ولكن الغريب في الأمر أن هذه المعارضة بكافة مكوناتها من المجلس الوطني إلى الائتلاف الوطني لم تكتشف حقيقة الموقف الغربي وبالذات الأميركي من الثورة السورية حتى الآن!
لقد بنت المعارضة السورية مواقفها على أوهام. وراهنت، وارتهنت إلى الجهات التي أرعبتها الثورات، وتجاهلت إمكانات وقدرات الشعب السوري ولم تعر وزنا لما يمكن أن يقدمه للثورة تعاطف وتكاتف وتلاحم شعوب العالم، ما يشي بأن هذه المعارضة لم تجد في الثورة السورية سوى سلّم سحري يمكن أن تتسلقه إلى السلطة!
لقد سبق لي أن لفتّ منذ الأشهر الأولى على تشكيل ما سمي “ائتلاف الثورة والمعارضة” إلى أهمية التواصل مع الشعوب ومع قواها الحية لكي تنحاز إلى الشعب السوري وثورته، ثم أبديت استغرابي لكون من أطلقوا على أنفسهم “ممثلو الثورة السورية” في الخارج لا يتواصلون سوى مع قوى النظم، مع أنظمة لا تثير لديها الثورات إلا الرعب، فيما هم غافلون عن الجهات التي يمكنها التحرك وتحريك الشوارع والرأي العام في العالم للضغط وإرغم الحكام على اتخاذ المواقف التي تخدم فعلا الشعب والثورة السوريين. وها هم اليوم يحصدون ما زرعوا، يُتما يشابه اليتم الذي فرضوه على الثورة السورية! فما عساهم فاعلون؟
وفي حين تستبيح الطائرات الروسية أجواء سوريا وتصب الموت والدمار على رؤوس المدنيين في مختلف مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، وفي الوقت الذي يحاول فيه حزب الله ومن ورائه نظام الملالي-البازار في طهران إحداث تبدلات ديمغرافية في مناطق معينة من سوريا تحت وطأة الحصار والقتل جوعا، في مضايا والزبداني والغوطتين وحمص، وحيث نرى ما يقع لأبناء دير الزور من حصار وتجويع وما يرتكب بحقهم من مجازر على يد داعش من جهة وطيران الاحتلال الروسي من جهة أخرى، نرى معارضة مرتبكة أسقط في يدها بعد الذي جاء به كيري!
غير أن وزير الخارجية الأميركي لم يأت بجديد. صحيح أنه بدا في لقاء فيينا الأخير كوسيط، لكن الموقف الأميركي عبر عن نفسه بشكل واضح منذ مجازر الغوطة بالسلاح الكيماوي. ومنذ ذلك الوقت ظهر جليا التنسيق الأميركي الروسي حيال سوريا رغم الخلاف الحاصل بشأن أوكرانيا. فلو أراد الأميركيون سلوك طريق آخر في التعامل مع القضية السورية لكانوا استغلوا العديد من الجرائم والتدخلات، ليست أولها جريمة الكيماوي كما ليس آخرها التدخل الواسع لحزب الله (المصنف إرهابيا لدى الدوائر الأميركية) إلى جانب الأسد في حرب الإبادة التي يشنها على شعبه. ولم يكن لروسيا أن تتدخل بهذا الشكل الاحتلالي الفج في سوريا إلا بناء على هذا التنسيق مع الأميركان.
يبقى أمام هذه المعارضة خياران؛ إما التخلي عن التفاوض بالشروط المهينة والعودة إلى ثوابت الثورة والتمسك بها مهما كانت النتائج، وإما التفاوض الذي سيجعلها في موقع الخيانة العظمى للثورة وليس أكثر من كومبارس بصلاحية محدودة التاريخ لدى المحتل الروسي.