الرياض - لكل بلد مشروعه الثقافي الناهض من ركام حنينه إلى الماضي، المتطلع إلى مستقبل يضاهي واقعه مهما كان حاله، فالماضي والمستقبل حالتا نقيض تلتقيان في ذهن كل وطن ومواطن، يجمعهما ذاكرة خيال وأمل، لذا كانت الجنادرية بالنسبة للمملكة احتفالية بالماضي الذي نعتز به ونفاخر.
الجنادرية مشروع ثقافي يبرز جانباً مهماً من جوانب بلادنا، فإحياء التراث وجمعه والتذكير به مهمة ليست باليسيرة، خصوصاً أن التقدم التنموي الذي طرأ على المملكة أوجد فجوة ثقافية لا يعيها كثير من أبناء هذا الجيل، لذا وجب تذكيرهم بحجم المشقة وقسوة العيش التي كابدها أبناء هذه البلاد التي خرجت إلى العلن بعد أن ظنت القوى الدولية أن تلك الرقعة الجغرافية ليست إلا صحراء قاحلة لا طائل منها ولا رجاء فيها.
يأتي المهرجان الوطني للتراث والثقافة "الجنادرية" ومنطقتنا العربية تحت وابل التخلّف والجهل، الذي وضعنا اليوم أمام مهمة أخلاقية لتدارك ما يمكن تداركه في خضم سيل من الأفكار والأيديولوجيا المتهورة والمنحرفة التي تضع ثقافتنا في إطارها الواسع؛ وفي مقدمتها الدين تحت ضغط شديد، فالصراع المحتدم في المنطقة يستند جزء كبير منه على تجاذبات دينية لم تكن مطروحة على الأقل في ال 100 عام الماضية، لكن احتدام التنازع على المنطقة أفرز مثل تلك الطروحات الشائكة.. ولا ريب أن المملكة تعرضت في خضم الحاصل إلى استهداف لا يلبث أن يهدأ حتى يستيقظ مرة أخرى، فقدر المملكة أن تتصدر المشهد وتتصدى لتبعاته.
من هنا كان ولا بد من أداة يمكن من خلالها الإسهام بشكل مباشر في تشكيل رأي ثقافي مضاد من خلال جعل الجنادرية وعاءً تصهر فيه وتصب طروحات ثقافية متعددة المشارب يوفر لها منصات للتحدث والإفصاح بعيداً عن تعاطي السياسة المزعج، على الرغم من صعوبة إقصاء هذا العامل لكن بالضرورة أن جزءاً مهماً من وظيفة الجنادرية هو إيجاد جو ثقافي تلتقي فيه النخب من الداخل والخارج سنة بعد سنة ليطرحوا أحاديثهم وقضاياهم، خصوصاً في السنوات الأخيرة التي تكالبت فيها على المنطقة أحداث تاريخية وجغرافية كبيرة.
ولو عدنا إلى الطروحات الشائكة وحالة الاستهداف التي تعرضت لها المملكة من قِبل بعض الدول القريبة والبعيدة، نجد الجنادرية تقوم بوظيفة دقيقة بدعوتها دولة كل عام كضيف شرف على المهرجان.. هذه الدعوة الثقافية مهمة للغاية فهي تتيح فرصة وتبعث برسالة تفاهم ثقافي، إذ إن محور التجاذبات الفكرية في المنطقة يتعلق جزء كبير منه بفقدان القدرة على التواصل الثقافي الذي كان يوماً رافداً للتفاهم والتسامح والسلام.
ألمانيا هي ضيف شرف هذا العام، وهي دولة لديها تقاليد وثقافة عريقة وتاريخ طويل حافل بالأحداث، ويهمنا الاطلاع على تلك الثقافة، وبنفس الدرجة يهمنا أن يطلع المهتمون في المؤسسة الثقافية الألمانية على ثقافة المملكة، وتفهّم بعض خصوصياتها، وعدم إخضاع ثقافات وتقاليد أي دولة وفق معايير خاصة بنا، فهذا بلا شك معيار وميزان لا يمكن أن يكون عادلاً.