الاتحاد - على مدى بضع سنوات قبل اندلاع «الربيع العربي» في عام 2011، كانت تركيا نموذجاً للدبلوماسية المبتكرة من خلال تبنيها سياسة «صفر مشاكل مع الجيران». فباستثناء علاقاتها مع اليونان وإسرائيل، طبّقت أنقرة هذه السياسة في علاقاتها مع إيران وروسيا والعالم العربي، إضافة إلى أذربيجان وباكستان وأفغانستان. وكان هذا الانفتاح التركي على كثير من البلدان التي كانت تشكل في ما مضى جزءاً من الإمبراطورية العثمانية انفتاحاً ناجحاً جداً، لكن لبعض الوقت فقط.
فاليوم تجد تركيا نفسها في وضع مختلف وصعب إلى حد كبير. ذلك أنه عندما بدأت الانتفاضات العربية كانت تركيا تنسج علاقات وثيقة جداً مع الرئيس السوري بشار الأسد، كما اعترفت بإسقاط الرئيس المصري حسني مبارك، بل باركته ورحبت به. ولاحقاً، قام رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان بزيارة القاهرة في سبتمبر 2011 من أجل الترحيب بالمجلس العسكري الحاكم وتقديم الدعم له. لكن بحلول هذا الوقت، كانت الانتفاضات قد امتدت إلى سوريا، فانخرط الأسد في حملة قمع عنيف ضد المعارضة التي كانت تتظاهر في الشوارع. ثم سرعان ما تردت العلاقات بين البلدين الجارين، وخاصة بعد أن فر ملايين السوريين إلى لبنان وتركيا والأردن، ولاحقاً إلى أوروبا.
وبعد ذلك، في صيف عام 2014، تمكن تنظيم «داعش» بأساليبه العسكرية الفعالة وعديمة الرحمة من السيطرة على مدينة الموصل، التي تعتبر ثاني أكبر مدينة في العراق، فطرد الجيش العراقي الذي درّبته الولايات المتحدة وجهّزته على مدى عدة أعوام. ومن منظور معظم الدول العربية، ومعها أيضاً إيران والولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي، كان تهديد «داعش» يمثل خطراً كبيراً وعاجلاً كان ينبغي أن يحظى بالأولوية ويقدَّم على هدف هزيمة الأسد. غير أنه بالنسبة لتركيا كان التحدي الأساسي هو الأسد، والحال أنه لا تركيا ولا أحد آخر داخل المنطقة أو خارجها كان مستعداً لشن حرب مفتوحة على سوريا ومواجهة الجيش والقوات الجوية السوريين بشكل مباشر.
وفي ظل هذه الظروف، استطاع نظام الأسد الحفاظ على سيطرته على دمشق، على الرغم من فقدانه مناطق عديدة عبر البلاد، وخاصة في الشرق، كما استطاع، بمساعدة من «حزب الله» اللبناني، الاحتفاظ بسيطرته على الطرق الاستراتيجية المؤدية إلى البحر الأبيض المتوسط. لكن الذي كان يثير قلق تركيا أيضاً هو انتقال حركة التمرد إلى مناطق بمحاذاة حدودها تخضع لسيطرة الأكراد السوريين الذين شكّلت علاقاتهم مع أكراد تركيا تحدياً استراتيجياً لا يمكن السكوت عليه بالنسبة لأنقرة.
وفي الوقت الذي بدا فيه أن قبضة بشار الأسد على السلطة قد أخذت تضعف وترتخي، قررت روسيا في سبتمبر 2015 دخول الحرب في سوريا، فاستعملت وحدات من قواتها الجوية لمساعدة الأسد بشكل مباشر. وأدى هذا التدخل، إلى جانب الدعم المستمر الذي تقدمه إيران للأسد، إلى تغيير الدينامية الاستراتيجية، إذ قلّص بشكل كبير احتمالات انهزام الأسد أو إجباره على التنحي عن الحكم. وعلاوة على ذلك، فإن التدخل الروسي لم يكن موجهاً في البداية ضد «داعش» وإنما ضد قوات المعارضة التي تقاتل الأسد، وبالضبط التنظيمات المدعومة من قبل بعض الدول العربية وكذلك الولايات المتحدة الأميركية. وفي الرابع والعشرين من شهر نوفمبر 2015، قامت تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية قالت إنها انتهكت مجالها الجوي، وهو ما حدا بالزعيم الروسي فلاديمير بوتين إلى التحذير من العواقب الخطيرة لما قامت به تركيا. ثم فرضت موسكو بعض العقوبات على تركيا ووجهت نصائح لمواطنيها بعدم زيارتها من أجل السياحة.
وفي الوقت الراهن، تسعى تركيا لتحسين علاقاتها مع أوروبا على خلفية التدفق الكبير للاجئين على القارة، وهي تعمل في صمت على حل الأزمة الطويلة بخصوص قبرص. كما أنها منخرطة في مفاوضات هادئة مع إسرائيل من أجل إنهاء الخلاف الكبير بين الجانبين حول المشكلة الفلسطينية. ومؤخراً، قررت أنقرة إرسال قوات إلى قطر وإنشاء قاعدة عسكرية هناك، كما أن ثمة تأثيراً ووجوداً تركيين متزايدين في الصومال.
وتأسيساً على ما تقدم، يمكن القول إن الحكم السلطوي للرئيس أردوجان يواجه لحظة الحقيقة في جهوده الرامية إلى أن يصبح مرة أخرى لاعباً مهماً وأساسياً في الشرق الأوسط. ولعل التحدي الأكبر بالنسبة له هو ذاك الذي يطرحه التحالف الشيعي الذي يجمع سوريا وإيران والعراق وتنظيمات مثل «حزب الله». غير أنه يتعين على تركيا أيضاً أن تسعى للتوصل لاتفاق مع أكرادها تجنباً لقيام حركة تمرد أخرى، كبيرة ودموية، في البلاد. ولهذه الأسباب، فإنه لا يمكن لتركيا أن تتجاهل الولايات المتحدة وأعضاء آخرين في «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، وهو ما يعني مزيداً من التعاون مع هذه الدول في المقبل من الأيام.