الحياة - يعيش العرب هذه الأيام حال إحباط ويأس وصلت إلى درجة الهروب إلى المجهول وركوب أمواج البحار والمحيطات بحثاً عن ملجأ أو حضن يؤويهم ويواسيهم ويطمئنهم من خوف ويؤمن لهم لقمة كريمة، فهل هناك أغلى من التضحية بالنفس والولد والأهل والوطن، لا دفاعاً عنهم بل بحثاً عن أمان مفقود وأمن غير موجود في الديار غير العامرة؟ نعم، هذا هو حال أي مواطن بعد خمس سنوات من «تسونامي» عصفت بكل القيم والركائز والمؤسسات وقضت على ما بناه الأجداد والآباء لمئات السنين وأكلت الأخضر واليابس.
غلو في العناد والإنكار والتحدي، وإمعان في القتل والتعذيب والنحر والسبي والقصف، من دون تمييز بين عدو وأخ وبين رجل وامرأة وطفل وعجوز، وانسداد في الأفق وعدم وجود بارقة أمل بأن نلمح في آخر النفق المظلم قبساً من نور قبل أن يصل المواطن العربي إلى فقدان الأمل، وهو يردد مقولة الزعيم المصري الراحل سعد زغلول لزوجته، وقد اشتد به المرض: «غطيني يا صفية. ما فيش فايدة».
والمعضلة الكبرى لا تكمن في تدمير الحجر وحسب، بل في تدمير البشر وقطع صلة الرحم بين الأهل والإخوة وأبناء الوطن الواحد: تشريد وقهر، تيتيم الأطفال وترميل النساء، خوف ورعب، فقر وجوع... حتى وصلنا إلى مرحلة انقسم فيها الناس بين مشرد ونازح وفقير وتائه، ومريض ومعقد، وحاقد وناقم. أجيال بكاملها دمرت وأطفال بلا علم ولا دواء وغذاء، ونساء لا معيل لهن ويرزحن تحت سيف الحاجة والشرف والترهيب.
مشهد بانورامي مؤسف ومثير للنقمة والخجل، خصوصاً أن هناك من يعلم بأن نتيجة هذا كله انفجار لا تقتصر نيرانه على المنطقة. إلا أن الإيمان يدفعنا إلى التمسك بتلابيب خيط أمل رفيع يدلنا على معالم طريق الخلاص الذي يقع على مفترق طريقين: إما الدمار وإما الإعمار... وإعمار البشر يجب أن يأتي أولاً. لكن الصعاب كثيرة والطريق كلها ألغام وعراقيل لألف سبب وسبب، من بينها اختلاف الظروف الراهنة عن أي ظرف مضى. فحجم الدمار هائل والمواقف الدولية مترددة ومتباينة أو غير قادرة على تبني مشروع «مارشال» جديد، ولامبالية أو مغرضة وطامعة.
أما الدول العربية النفطية التي كانت تقدم الدعم في كل مرة تتعرض فيها دولة عربية لأزمة، فتعاني من مشاكل كثيرة بينها انهيار أسعار النفط وتشعب مسؤولياتها إضافة إلى آثار حرب اليمن وكلفتها الباهظة على دول التحالف بقيادة السعودية التي ستكون معنية بإعمار اليمن قبل غيرها لأسباب استراتيجية وأمنية.
ولهذه الأسباب سيتوجب على كل طرف «أن يقلع شوكه بيده»، أي أن يعتمد على نفسه وعلى إمكاناته الذاتية وقواه الاغترابية، وهي قادرة وراغبة ومؤهلة للمساهمة في إعادة بناء وطنها إذا قدمت لها الضمانات وتأكدت من الاستقرار وسيادة القانون. وهناك عشرات الآلاف من رجال المال والأعمال الجاهزين لبذل الغالي والرخيص، ومنهم من بدأ بالفعل رسم خريطة طريق لإعمار ما دُمر خلال سنوات الحرب.
لكن قبل المال والجهد والرغبة، لابد من تحكيم العقل أولاً، ومن ثم اللجوء إلى الحكمة لتحقيق المصالحة وإزالة الأسباب والدوافع ووقف التحديات والمكابرة والإنكار ورفض تقديم تنازلات، ثم مع كثير من الصبر تبدأ مسيرة إزالة آثار ركام دمار الحرب ومعه رواسب الأحقاد والكراهية وسموم العنصرية والمذهبية والطائفية وإنهاء سياسة الاستئثار والإقصاء ورفض الاعتراف بالآخر مهما كان حجمه ودوره.
والأهم من ذلك أن أي إعمار أو إصلاح لن يتحقق إلا باجتثاث جذور العنف والإرهاب والتعصب والتطرف. ومن هنا يمكن بدء مسيرة الألف ميل في إطار مسؤولية وطنية كبرى يتحمل مفاعيلها ونتائجها الجميع، من القمة إلى القاعدة، مع إعطاء دور أكبر لأصحاب الخبرة والعلم ورجال الثقافة والإعلام للمشاركة في التوعية والتوجيه وإحياء الروح الوطنية وترسيخ أواصر المحبة وتدعيم بنيان الوحدة.
ولا بد من التركيز على المواطن لتشجيعه على لعب دور أكبر في خدمة وطنه وإعادة الإعمار، في إطار تثبيت سياسة المشاركة في القرار وإحياء عاطفة حب الوطن التي كادت أن تندثر جراء تراكم الأخطاء وسياسة الاستئثار بالسلطة، ومن ثم بسبب تداعيات الحرب وآثار ندوبها وسمومها. وأي جهد لا ينطلق من هذه المسلمات لن يبصر النور بسبب تعقيدات الأوضاع وتشابك الصراعات والحروب الدولية القائمة فوق هذه الأرض العربية، ولا سيما في سماء سورية وأراضيها، فأول الغيث حكمة، ومن بعدها العمل والجهد والتضحيات، والعرب لا يتعلمون من تجاربهم ودروسهم، ومن بينها أن الحرب لا منتصر فيها ولا مهزوم مهما كانت نتائجها، وأن التدمير سهل ولا يكلف شيئاً، بينما البناء يحتاج إلى سنوات من الجهد وإمكانات هائلة.
ولهذا عليهم أن يتعلموا من دروس الآخرين ويتبصروا كيف جابهوا الويلات وتحملوا وصبروا ورفضوا الدخول في متاهات الجدل البيزنطي والمناكفات وإشعال نار الفتن، ولو بكلمة واحدة، ووضعوا خلفهم الاتهامات حول من تسبب بنشوب الحرب العالمية ومن قتل من ومن دمر أكثر. وهنا، أشير باختصار إلى بعض الدروس:
التطور الأحدث والمثير للاهتمام هو توصل إيران والدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى اتفاق لحل أزمة الملف النووي الإيراني، متناسية عداء «الشيطان الأكبر» ورفاقه، ورفع الحصار وإلغاء العقوبات الدولية بعد سنوات طويلة من الصراع والعداوات التي كان يمكن أن تؤدي إلى حرب تدمر وتقضي على كل مقومات الحياة.
قبل كل ذلك بعقود، وبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في أوروبا وزالت أحقاد الحروب نفسياً وسياسياً وجرى التفاهم على الانفتاح والتسامح، بدأ البحث عن سبيل إقامة كيان مشترك انطلق من السوق الأوروبية المشتركة وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي الذي أصبح الآن يضم 25 دولة تشكل قوة عظمى لها وزنها، رغم الانتكاسات التي تعرضت لها خلال السنوات الماضية وعودة الحديث عن التخلي عن اتفاق العملة الموحدة (اليورو) واتفاق «شنغن» في شأن تأشيرات الدخول الموحدة.
في المقابل، لا بد من أن نأخذ الدرس من تجارب رائعة في الصين التي تعمل بصمت وتبني من دون ضجة ولا تباهٍ، لتتحول تدريجاً إلى قوة عظمى اقتصادية وسياسية وعسكرية يحسب لها ألف حساب، لا غلو فيها ولا دخول في متاهات الصراعات الدولية والتورط في المشاكل والأزمات الكثيرة التي يشهدها العالم أو التي شهدها حتى في حقبة الحرب الباردة.
والدرس الآخر يؤخذ من تجربتي ألمانيا واليابان، فقد استوعبتا مفاعيل الهزيمة المُذلة في الحرب وآلامها والدمار الشامل الذي لحق بهما، إن بالتدمير العشوائي أو باستخدام القنابل الذرية ضد اليابان، وبدل البكاء على الأطلال وإضاعة الوقت في الندب والشكوى وتوزيع الاتهامات على الداخل والخارج، التفت البلدان الجريحان إلى بذل الجهود الجبارة لإعادة البناء على أحدث طراز، مدماكاً مدماكاً، بصبر وثبات وتضحية، من القمة إلى القاعدة، فتحولتا إلى أهم قوتين اقتصاديتين في العالم.
وهذا يدفع إلى التساؤل عن حكمة هذه السياسة بدل الثرثرة والشعارات والخطابات الحماسية والانقلابات والمؤامرات والتلهي بالصغائر وتضليل الشعوب وادعاء انتصارات زائفة، مع أنه كان في استطاعة الدولتين زعزعة الأمن العالمي وتنفيذ أعمال عنف وعمليات انتحارية نعرف جميعاً أن اليابانيين كانوا أول من لجأ إليها (الكاميكاز) في «بيرل هاربر» وغيرها، لكنهما لجأتا إلى الحكمة والصبر والوحدة الوطنية والالتزام بالقرار الواحد مهما بلغت التضحيات وآلامها.
ومن دروس الآخرين أيضاً تأتي دول «بريكس» (الهند والبرازيل وروسيا والصين وجنوب أفريقيا) التي أصبحت الآن مجموعة اقتصادية دولية يحسب لها ألف حساب اقتصادياً وسياسياً، لأنها لجأت إلى العمل المجدي والصامت وبناء اقتصاد متين لأنه العماد الأساس لأي دولة أو مجموعة إقليمية تريد اللحاق بركاب تطورات العصر المتسارعة والثورة العلمية والتكنولوجية. ولو لجأت هذه الدول إلى الأسلوب العربي الفاشل، لما تحققت إنجازات فيها، مثل الهند ونضالها السلمي من أجل الاستقلال بقيادة ألمهاتما غاندي ثم في البناء واستخدام آخر معطيات التكنولوجيا، وأيضاً بالنسبة إلى جنوب أفريقيا بفضل حكمة زعيمها الراحل نيلسون مانديلا.
يلفت في هذا السياق أيضاً تصرف الصين بالنسبة إلى موضوع هونغ كونغ التي كانت تخضع للحكم البريطاني. فبدل اللجوء إلى القوة، اعتمدت سياسة الصبر والانتظار حتى حانت لحظة القرار، فلم تلجأ إلى الحل العسكري وإن كانت قادرة على حسمه في ساعات، بل ضمنت عودتها إليها تدريجاً بمنحها حكماً ذاتياً للحصول على الأرباح التي تجنيها منها كمنطقة حرة. وكذلك الأمر أيضاً بالنسبة إلى تايوان، حيث لم تلجأ إلى الحل العسكري، بل بقيت تضغط سياسياً إلى أن تم اللقاء المباشر وجهاً لوجه بين الرئيسين، بلا أحقاد ولا استعلاء.
هذه الدروس المعبرة تدفعنا إلى التأكد من أن هذه الأهداف كلها لا يمكن أن تتحقق إلا بالجهد والمثابرة والصبر والتضامن وتحمل المشقات في سبيل إعادة بناء الأوطان، ومن جد وجد، ليس بالعنف والإرهاب والفوضى والتخريب، بل بإحكام والعقل وبناء القوة الاقتصادية والعسكرية وتعزيز الوحدة الداخلية للنهوض من الكبوة التي سقط فيها العرب قبل عقود من الزمان.
والخطوة الأولى في مسيرة النهوض تبدأ من العمق، أي من داخل كل مواطن، فلنبدأ بأنفسنا أولاً، بإصلاح الأحوال وبناء ركائز القوة، ومن ثم الانطلاق نحو العمل المشترك وإصلاح ما تهدم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. والمشكلة العويصة تكمن في أن غالبية العرب لا يدركون أهمية مثل هذه الخطوة ويعملون على تحميل «الآخر» مسؤولية الانهيار ويمضون حياتهم في الأحلام والتنظير حول وسائل إصلاح العالم كله وتغيير الواقع المؤسف بالكلام والشعارات البراقة.
ولا رد على مثل هذه العقلية أبلغ من قول العالم الشيخ محيي الدين ابن عربي: «في ما مضى كنت أحاول أن أغيّر العالم... أما الآن، فقد لامستني الحكمة فلا أحاول أن أغيّر إلا نفسي».