يطرح مطلعون مخضرمون على الشأن اليمني فكرة «تأمين» عدن وصنعاء عبر قوات دولية لحفظ السلام أو مراقبين دوليين كمدخل أساسي لاستعادة اليمن قدرته على التعافي في أعقاب الانقلاب الحوثي على الحكومة الشرعية وما تبعه من عمليات عسكرية لقوى «التحالف» في «عاصفة الحزم» بقيادة السعودية. قرار مجلس الأمن الرقم 2216 الصادر تحت الفصل السابع من الميثاق - وهذا يعني أن له «أنياباً» - تبنى إجراءات على نسق نشر قوات دولية أو مراقبين. وفرض عقوبات ومنع السفر على ابن الرئيس السابق أحمد علي عبدالله صالح. هذا بالتأكيد ساهم – مع الغارات التي دمرت الكثير من قوى علي عبدالله صالح – في إقناع الأب العنيد أن الوقت حان له أن يحزم حقائبه ويغادر اليمن للمرة الأخيرة، فلقد أدرك الرئيس المخلوع أن استمراره في تحالفه مع الحوثيين عسكرياً سيؤدي إلى دماره، وأن تصوّره بأنه سيعود رئيساً أو سيورّث ابنه الرئاسة بات وهماً مكلفاً للاثنين لأن كليهما الآن تحت طائلة العقوبات الدولية. فإذا انتقل علي عبدالله صالح إلى عُمان لاجئاً وليس لاستخدامها قاعدة انطلاق لهوسه بالسلطة، وإذا اتخذت الأسرة الدولية إجراء تأمين عدن وصنعاء وحدهما، فستكون العملية السياسية الضرورية ممكنة وقابلة للنجاح. وبالتأكيد، يتطلب الأمر أيضاً استراتيجية بعيدة المدى تتبناها السعودية نحو اليمن بوجوهها الأمنية والسياسية والاقتصادية والإعمارية، لا تقوم على الإقصاء وإنما على الترغيب بالحوار والمصالحة والتفاهمات الإقليمية. يمكن أن يقال أن الانتقال من الغارات العسكرية بموجب «عاصفة الحزم» إلى وقف الغارات والبدء بـ «استعادة الأمل» يشكل «استراتيجية خروج» كانت ضرورية لتجنب الانزلاق إلى مستنقع بري في اليمن، لا سيما بعدما بات واضحاً أن لا مصر ولا باكستان جاهزتان للتورط بقوات برية في اليمن. بعض الاستعجال وقع عندما بدأت «عاصفة الحزم» لأن العملية لم تجهّز الناحية البرّية من الحرب في اليمن، ولم تضع خطة «باء» في حال عدم توافر الجيوش البرية. فالغارات الجوية وحدها لم يكن لها أن تنجز المهمة العسكرية مهما كانت مكثفة. والتجربة الأميركية في محاربة «القاعدة» في اليمن عبر طائرات من دون طيار «درونز» كانت درساً واضحاً لاستحالة الانتصار جوّاً حصراً. الاستعجال أتى عبر إعلان انتماء باكستان إلى «التحالف» ليليه رفض باكستان الانخراط فيه. ولعل الافتراض أن العلاقة الاستراتيجية الجدية والجديدة للسعودية والإمارات مع مصر ستسفر عن استعداد مصر لدخول اليمن بقوات كان افتراضاً مستعجلاً. مهما كان، فإن قرار إنهاء الغارات الجوية المكثفة، هو «استراتيجية خروج» حكيمة، لا سيما أن عملية «عاصفة الحزم» حققت أحد أهم أهدافها، وهو تدمير الأسلحة التي يمكن أن تضرب الأمن القومي السعودي والتصدي للتطاول الإيراني على الأمن القومي السعودي عبر الجار اليمني. أحد أهم العالمين بخفايا وتاريخ اليمن قال أن النصر بمعنى الانتصار في حرب تقليدية – كان ممكناً لو اتخذ «التحالف العربي» إجراءات القيام بإنزال بحري في عدن لتأمين الشرعية على نسق الإنزال في النورماندي. «فليس في عدن جبال ووديان، ولم يعد فيها ألوية، وبيئتها حاضنة، بالتالي إن تأمين عدن عبر الإنزال البحري سهل». ويضيف أن بعد عدن، من السهل تأمين الحديدة لأن لا قوات كبيرة فيها وهي أيضاً بيئة حاضنة، يليها تأمين تعز ثم إب. «هكذا يمكن وضع ثلاثة أرباع سكان اليمن تحت السلطة الشرعية». هذا الخيار لم يتم تبنيه بسبب العقَد والمخاوف من «الإنزال البري» وتاريخ التورط في اليمن بدءاً من صعدة حيث هُزِمت مصر وقبلها العثمانيون. لكن الإنزال البحري عبر عَدن يبقى خياراً مفتوحاً إذا تطلبت الحاجة، لا سيما أن السعودية تقول رسمياً أن الحرب لم تنته وأنها مستمرة في التعرّض لتحركات الحوثيين وقوات علي عبدالله صالح عبر القصف الجوي والحصار البحري. المشاركة الأميركية في الحصار البحري أتى لإبلاغ الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن الولايات المتحدة لن توافق على إجراءات تهدد الأمن القومي السعودي. كانت الرسالة حازمة وفحواها أن التورط الإيراني بتدخل أكبر في اليمن سيؤدي إلى التأثير سلباً في مجريات إقناع الكونغرس الأميركي بتسهيل الوصول إلى الاتفاق النووي. وبما أن إيران تريد رفع العقوبات عنها وبما أن الرئيس باراك أوباما طمأنها بوصول الأموال الضخمة إليها في حال الاتفاق، ارتأت طهران أن من مصلحتها تفادي أي مواجهة عسكرية بحرية مع الولايات المتحدة، وأنه لمن الأفضل الآن ترك الحوثيين بلا معونة عسكرية. فالحوثيون الآن لديهم أسلحة الجيش اليمني كله، وطهران لا تحتاج أن توصل إليهم السلاح. لا قيمة عسكرية حالياً للمعونات الإيرانية إلى الحوثيين بما يستحق المجازفة بالاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران. اختبار إيران يكمن في مدى استعدادها لإقناع الحوثيين أن يتحولوا إلى حركة سياسية مدنية. وهذا ما لم تفعله حتى الآن. التحرك الأميركي العلني عبر حاملة الطائرات «ثيودور روزفلت» أبلغ رسالة دعم للسعودية في دفاعها عن أمنها القومي وعن الشرعية في اليمن، في الوقت ذاته، كانت واشنطن تبلغ الرياض أنها قلقة من أن يؤدي استمرار «عاصفة الحزم» إلى عودة «القاعدة» كأمر واقع، وتؤّدي إنهاء غارات «التحالف» كي تتمكن من استئناف الضغوط الأميركية على «القاعدة» جواً. الرسالة الأميركية انطوت أيضاً على القلق من الكلفة الإنسانية نتيجة «عاصفة الحزم» وما يترتب عليها من دمار في حال استمرت الغارات لجوية لأشهر عدة. وتضمنت الرسائل الأميركية شبه تطمينات بأن إيران لربما جاهزة لتيسير المفاوضات، لا سيما على الأسس التي ترعاها مسقط في مبادرة متكاملة، لكنها على الأقل ليست في صدد المواجهة العسكرية مع السعودية في اليمن. دور إيران في حوار مسقط ليس واضحاً بكل جوانبه بعد. الواضح أن العلاقة بين إيران وعُمان علاقة جيدة، وأن عمان تتبنى الحياد حيال السياسة الخليجية نحو إيران ونحو اليمن. أما مدى استعداد إيران لفتح صفحة جديدة مع دول مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً السعودية، في أعقاب «عاصفة الحزم» التي لم تكن تتوقعها، فهذا ما زال في خانة السؤال. لربما إيران لا تعتبر نفسها خاسرة في اليمن بسبب إنهاء «عاصفة الحزم» قبل الحسم التام عسكرياً. ولربما لا تعتبر نفسها منتصرة في اليمن بسبب عدم تورط السعودية وبقية الدول المشاركة في التحالف العربي في مستنقع حرب برية مريرة باتخاذها قرار إنهاء «عاصفة الحزم». الحوثيون وصالح وأتباعه يلمحون إلى الخضوع للأمر الواقع تارة والقبول بالقرار 2216 الذي يطالبهم بإعادة السلاح إلى مؤسسات الدولة والانسحاب من المواقع التي استولوا عليها كشرط للعودة إلى طاولة المفاوضات. وتارة أخرى يتحدثون بلغة «الانتصار» لأن «عاصفة الحزم» أُنهيت وهم في مواقعهم. واقع الأمر أن نهاية علي عبدالله صالح مؤكدة فإذا نفّذ ما بحثت فيه سكة مسقط السرية ولجأ إلى عُمان، سينتهي سياسياً. وإذا تراجع عن المغادرة، وأصر على تدمير اليمن، هذا يعني أن حرب الاستنزاف ستدوم طويلاً وستؤدي إلى إنهاكه وإنهاك نجله معه. المعادلة السياسية داخل اليمن ستتغير مع إنهاء «عاصفة الحزم» وإطلاق «استعادة الأمل» لإعادة الأطراف إلى الوراء وتقديم المعونة الإنسانية وإعادة الإعمار. لقد بدا «الإخوان المسلمون» مرتاحين لحرب التحالف العربي على الحوثيين وعلى صالح لأن هذه الحرب في مصلحتهم – كأمر واقع – وتعود عليهم بفائدة كبيرة. لقد دخل عنصر صعود فرص «الإخوان المسلمين» في الحسابات الخليجية – الخليجية والخليجية – المصرية، بالتأكيد. الآن، سيقع نوع من «الازدحام» في المبادرات والوساطات لليمن. عمان لا تريد أن تستضيف الحوار – إذا تم التوافق عليه – وتفضّل أن يكون في مدينة أوروبية، الأرجح جنيف أو فيينا. السعودية، رسمياً، ما زالت تعتبر الرياض الموقع الأفضل لأن الحوار يأتي تلبية لطلب الرئيس اليمني الشرعي. لكن السعودية تدرك أيضاً أن لا مجال لعقد الحوار في رعاية الأمم المتحدة في الرياض بسبب رفض الحوثيين للموقع. وإدارة أوباما تبدو راغبة بأن يتم الحوار في رعاية الأمم المتحدة – وليس تلبية لدعوة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي في الرياض. الآن، لن تتوقف العمليات العسكرية كلياً، بل ستستكمل قوات التحالف العربي عملياتها عبر استهداف الحوثيين أين ما كانوا – إذا استمروا في رفض الحوار والتفاوض والتحول الى حركة سياسية مدنية. فهذه القوات ما زالت تسيطر على الأجواء اليمنية والحياة الإقليمية. العمل السياسي ضروري وكذلك الاستثمار البنيوي في اليمن. دفع العلمية السياسية إلى الأمام يتطلب مواقف جدية من الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومن إيران وبالتأكيد من السعودية وبقية الدول المشاركة في التحالف. وأمام كل هذه الدول فكرة عملية لتنفيذ فعلي للقرار 2216، الذي وضع خريطة طريق إلى العملية السياسية – فكرة تأمين صنعاء وعدن حصراً من خلال وجود دولي. فهذا يؤدي إلى تحرك جدي نحو تعافي اليمن. *نقلاً عن "الحياة"