الحياة - تبدلت غايات «المقاومة» التي أطلقها «حزب الله» وتطورت مراميها. كان الهدف الإقليمي لـ «المقاومة الإسلامية» يروم إلى تثبيت حدود جديدة للجمهورية الإسلامية صوب البحر الأبيض المتوسط غرباً مروراً بالحدود اللبنانية - الإسرائيلية، ناهيك عن تلك السورية - الإسرائيلية، من خلال الهيمنة على مفاصل الدولة السورية. أما لبنانياً فقد تطوّر الفعل «المقاوم» من نبالة القتال ضد المحتل، من أجل تحرير أرض محتلة إلى السعي للتحكم بمفاصل الدولة اللبنانية. ذلك أن تثبيت الدور الإقليمي، لا بد أن يتطلب «تأمين» الداخل اللبناني وضمان تطويعه وإخضاعه. وقد يُدرج البعض اغتيال الرئيس الحريري في ذلك الإطار، ذلك أنه، بما كان يمثّله وما كان يطمح إليه، يتناقض تماماً مع ما كان يتطلع إليه النظام السياسي الأمني من طهران إلى حارة حريك، مروراً بدمشق.
لم تعد الحاجة لتوطيد سطوة على البلد أولوية إيرانية - سورية في موسمي الاتفاق النووي والحرب السورية. أمرٌ كهذا لا يعدو عن كونه ورقة تتمّ المناورة بشأنها من ضمن أوراق تتطاير في المنطقة برمتها. وحده «حزب الله» بات يعتبر أن الورقة اللبنانية هي ورقته المستقبلية الوحيدة لضمان البقاء، لإدراكه أن مآلات «الحلّ» السوري كما أعراض التغير الداخلي الإيراني لا تشي بما يضمن الاستمرار بالعمل وفق شروط «إيران الثورة» و «سورية الأسد».
لو لم يوقّع فريق روحاني على الاتفاق النووي، ولو لم تنفجر الثورة في سورية، لكان هناك رئيس جديد للجمهورية في لبنان يأخذ في الاعتبار تفوّق «حزب الله» وفائض قوته. لكن الحزب، ووفق معطيات دقيقة يمتلكها، بات يعتبر أن تجريده المقبل حتماً من رعاية طهران ودمشق، لأسباب تتعلق بالداخلين الإيراني والسوري، يفرض عليه التحصّن داخل لبنان والتلطي بنظام سياسي يقوم على مقاسه. وعلى هذا فإن تعطيل الاستحقاق الرئاسي، حتى على حلفائه القريبين، ليس هدفه تحسين حصّة الحزب في بعبدا، بل هدفه العمل على مراكمة الأزمات والسهر على ازديادها، حتى يصبح النظام السياسي برمته عليلاً يحتاج إلى علاج جذري كبير.
يلاحظ الزائر للبنان بسهولة تكدس العفن داخل النظامين السياسي والإداري اللبناني. كشفت أزمة النفايات عن رأس جبل الجليد، فيما سمع وزير الداخلية نهاد المشنوق في لندن أخيراً روايات بريطانية (غربية) تتخوّف من أمن المطار. يتعايش البلد بقدرة عجائبية على مشارف البركان السوري الذي يفيض على داخله نزوحاً قياسياً وتصديراً للعبث الأمني. وفيما تلتهي أحزاب البلد في ورشة الانتخابات البلدية، لا يبدو «حزب الله» معنياً بما هو تفصيلي، كما لا يبدو معنياً، إلا في الحدّ الأدنى، بما من شأنه إحياء المؤسسات الدستورية الكبرى. تكفي ملاحظة شغور الموقع الرئاسي وشلل مجلس النواب اللبناني والإيقاع السلحفاتي الذي تعمل وفقه الحكومة، لاستنتاج العاهة المستدامة التي تستوطن البلد ومنظومته السياسية. ويكفي تأمل صمت «حزب الله» إزاء النقاش حول القانون الانتخابي أو أزمة جهاز أمن الدولة أو حتى مداولات الانتخابات البلدية لاستنتاج ذلك البون الشاسع الذي يفصل بينه وبين الفرقاء السياسيين في لبنان.
تنشغل المشارب السياسية المختلفة بنقاشات روتينية تتعلّق بالموقف الواجب اتخاذه من هذه المشكلة الدستورية أو تلك. والسريالية أن السياسية اللبنانية تعمل في المطابخ التقليدية لإنتاج الأطباق التقليدية، فيما تنسى بسرعة مقززة طبيعة مطابخ حزب الله وما أنتجه سابقاً وما ينتجه راهناً من أطباق. ينسى السياسيون اللبنانيون أن أعضاء في الحزب يحاكمون في لاهاي بتهمة اغتيال الرئيس الحريري، وأن الحزب يُدرَج على لائحة الإرهاب، وأن العقوبات المالية الأميركية موجعة جداً، وأن الجهاز العسكري للحزب يعمل علناً في سورية والعراق واليمن وجهات أخرى، على ما يجعل من التفاصيل اللبنانية ثانويةً، مقارنةً بجهد البقاء والوجود الذي يبذله.
لن ينشط حزب الله للترويج لأي إنجاز أو استحقاق يعمل وفق اتفاق الطائف. وفي التعطيل الممارس على كافة المستويات كما في عدم الغوص في غمار ما ينشّط المؤسسات الإدارية والدستورية سوْق البلد نحو التسليم بضرورة استبدال النظام السياسي برمته. أطلق السيّد حسن نصر الله على ذلك يوماً إسم المؤتمر التأسيسي، ثم أهمل الحديث عنه بسبب انخراط الحزب في الحرب السورية، وبسبب توجس الحليف المسيحي من الكلام على مثالثة تنهي امتياز المناصفة الحالي بين المسلمين والمسيحيين. بدا من خلال تقاعسه عن الدفع لانتخاب حليفه ميشال عون رئيساً للجمهورية، لا سيما بعد توقيعه على «ورقة النوايا» مع سمير جعجع المعترفة بالطائف أساساً للنظام اللبناني، أن الحزب تجاوز «ورقة التفاهم» مع عون وبات يضع الجميع، حلفاءً وخصوماً، في سلّة واحدة وبات يحيك سلته الخاصة، تلك التي تسهر بدأب على ولادة نظام سياسي جديد، نظام امتيازات يذكّر بتلك الأيام المارونية السياسية، مستوحياً خوف المسيحيين القديم.
يراكم خطاب الحزب لأزمة جديدة منذ انفجار الأزمة في سورية وانخراطه فيها. الخوف على المراقد، الخوف من التطرف، الخوف من التكفيريين، الخوف من الأكثريات، الخوف من الصهيونية والإمبريالية... إلخ. في لبنان يحكم من يقول «نحنا خايفين».