قرار مجلس الأمن الذي وضع استراتيجية سياسية لليمن وأضفى شرعية دولية على العمليات العسكرية للتحالف العربي صدر هذا الأسبوع نتيجة براعة ديبلوماسية مميزة لسفراء دول مجلس التعاون الخليجي ورئاسة مجلس الأمن للشهر الجاري المتمثلة بالأردن وسفيرته دينا قعوار. السفير السعودي لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي الذي قاد المفاوضات بصبر وإصرار ومثابرة، قال إن القرار 2216 «إنجاز تاريخي لأنه يؤسس لعدة حقائق أولاها إن الدول العربية إذا ما حزمت أمرها واتخذت موقفاً موحداً، فإن دول العالم تستجيب لها ولا بد أن تقف احتراماً لموقفها الموحد». القرار حصل على دعم 14 دولة وامتناع روسيا وحدها عن التصويت، وهذا إنجاز لأن روسيا كانت طرحت مشروع قرار واحتفظت بسرية التصويت حتى الساعات الأخيرة، على مشروع القرار العربي تاركة الباب مفتوحاً على إمكان استخدام «الفيتو» لإسقاطه، المندوب الروسي لم ينتقد العمليات العسكرية ولم يتطرق إليها في كلمته في مجلس الأمن. رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي اختار أن ينتقدها من واشنطن التي كان يزورها وحرص في الوقت ذاته على تبرئة إيران من أحداث اليمن، محذّراً من أن يؤدي التدخل السعودي في اليمن إلى تأجيج الحروب المذهبية إقليمياً. لعله لم يكن يقصد أن يسكب الماء البارد على الإنجاز العربي في نيويورك لكنه بدا كأنه يفعل ذلك ما اضطر الإدارة الأميركية إلى نفي أن يكون الرئيس الأميركي ونائبه ووزير خارجيته يوافقون رأي العبادي القائل إن «لا منطق» في عمليات الائتلاف العسكرية، وإن السعودية «مضت بعيداً» في اليمن وإنهم يخشون حرباً مذهبية أوسع في المنطقة نتيجة ذلك. مهما كان الأمر، فلا داعي أبداً إلى تحويل الاختلاف في التقويم إلى خلاف والبدء في حلقة اللوم والعتب والمواجهة الديبلوماسية والسياسية. الأفضل تفعيل القنوات المباشرة والقنوات الخلفية لإجراء حديث هادئ ولاحتواء أي ضرر يطرأ على العلاقة الخليجية – العراقية الفائقة الأهمية للطرفين، فالعراق في حاجة إلى السعودية والدول الخليجية الأخرى - وليس فقط إلى إيران – لمحاربة «داعش» في العراق ويجب أن يحرص جداً على المشاركة الخليجية في «التحالف» الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش». والدول الخليجية في حاجة إلى العراق لأن تعافيه في مصلحتها ولأن المفيد اليوم هو الاستثمار الجدي والصحي في العراق وليس التغيب عنه مرة أخرى. وعليه، فإن الديبلوماسية السعودية هي التي تقع في امتحان العراق واليمن استطراداً للنقلة النوعية في سياستها الإقليمية والدولية، وفي وسعها البناء الجدي على الإنجاز الديبلوماسي في الأمم المتحدة. لم يكن سهلاً أبداً استصدار القرار 2216 الذي عزز الغطاء الدولي للعمليات العسكرية ضد الحوثيين وقوى الرئيس السابق علي عبد الله صالح ونجله أحمد الذي بات سوية مع والده ومع عبد الملك الحوثي تحت طائلة العقوبات الدولية تحت الفصل السابع من الميثاق. أرادت روسيا الانطلاق من وقف غارات الائتلاف العربي بما سمته «هدنات إنسانية» متتالية، وأرادت حظر السلاح على الجميع، بما في ذلك الحكومة الشرعية، وأرادت عدم إضافة اسمي عبد الملك الحوثي وأحمد علي عبد الله صالح إلى قائمة العقوبات الدولية، وأرادت وقف النار الآن وليس تحت شرط عودة الحوثيين عما أنجزه انقلابهم على الشرعية. القرار صدر تحت الفصل السابع الملزم، ما يعني أن عدم تطبيقه يستلزم إجراءات إضافية من مجلس الأمن. طالب القرار الحوثيين بـ «سحب قواتهم من كل المناطق التي سيطروا عليها بما فيها العاصمة صنعاء، وتسليم كل الأسلحة التي سيطروا عليها من المؤسسات الأمنية والعسكرية بما فيها أنظمة الصواريخ». ودعا «كل الأطراف اليمنية، وتحديداً الحوثيين إلى التقيد بالمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني واتفاقية السلم والشراكة، كما دعاهم إلى «الاتفاق على شروط تؤدي إلى وقف العنف عملاً بميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن». طلب القرار من الأمين العام «تكثيف جهوده لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية وإجلاء المدنيين وإنشاء هدنات إنسانية وفق ما هو مناسب بالتنسيق مع حكومة اليمن»، وطلب منه تقديم تقرير عن «تطبيق القرار والقرار 2201 (الصادر في شباط - فبراير الماضي) خلال عشرة أيام». ونص على أن في حال عدم التقيد بالقرارين، فإن مجلس الأمن يعبر عن عزمه النظر في إجراءات إضافية ضد الأفراد والكيانات المنخرطة في الأعمال التي تهدد الأمن والاستقرار، بما فيها فرض العقوبات. مجلس الأمن، بموجب القرار 2216، طالب جميع الدول «باتخاذ خطوات فورية لتجنب إرسال الأسلحة مباشرة أو غير مباشرة إلى علي عبد الله صالح وعبد الله يحيى الحاكم وعبد الملك الحوثي، إضافة إلى الأفراد الآخرين المدرجين على لوائح العقوبات وبينهم علي عبد الله صالح وكل من يعمل لصالحهم أو بأمرهم». وطالب أيضاً كل الدول بأن تتجنب أي نقل للأسلحة إلى هؤلاء الأفراد عبر أراضيها وموانئها وطائراتها. ودعا الدول المجاورة لليمن إلى «تفتيش كل الشحنات المتجهة إلى اليمن، على أراضيها وموانئها البحرية والجوية إن كانت الدولة المعنية معلومات بوجود إمدادات عسكرية فيها» وقرر أن على كل الدول مصادرة هذه الأسلحة في حال العثور عليها. مهم جداً أيضاً ما جاء في قرار مجلس الأمن لجهة العملية السياسية، إذ شدد القرار على ضرورة تقيد جميع الأطراف اليمنية «بالحوار والتشاور لحل خلافاتها ورفض أعمال العنف» ودعاها إلى «الاستجابة إلى طلب رئيس اليمن حضور مؤتمر الرياض برعاية مجلس التعاون الخليجي ودعم الانتقال السياسي في اليمن والتأكيد على دعم المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة». ودعا الأمين العام إلى «تكثيف جهوده لاستئناف العملية السياسية في اليمن بمشاركة جميع الأطراف». مرة أخرى، لم يكن سهلاً أبداً استصدار هكذا قرار عن مجلس الأمن. السفير السعودي رفض الانسياق إلى المواجهة مع روسيا بما يؤدي إلى استخدامها «الفيتو». أصر عبد الله المعلمي على الأمل والثقة بالتحاق روسيا بالإجماع حتى في أصعب اللحظات، رفض التصرف الانفرادي وأشاد دوماً بالديبلوماسية الجماعية لسفراء الدول الذين انخرطوا يومياً في مفاوضات صعبة ومعقدة. برزت قدرات السفيرين العربيين المعتمدين لدى الأمم المتحدة في هذه المفاوضات، فإلى جانب رئيسة المجلس دينا قعوار، كان للسفيرة القطرية رئيسة دول مجلس التعاون الخليجي حالياًَ علياء بنت أحمد آل ثاني دور مميز، وكذلك سفيرة دولة الإمارات لانا نسيبة، وشاركت سفيرة عمان ليوثا المغيري في المفاوضات. ولعب سفيرا الكويت منصور العتيبي، والبحرين جمال الروبعي دوراً مهماً وكان لسفير اليمن خالد اليماني مساهمة جذرية. مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، جمال بنعمر، أدرك أن جهوده لاقت انتقادات حازمة من الدول الخليجية، وأن الأمين العام بات جاهزاً لإيجاد بديل منه، علماً أنه هو أيضاً بات جاهزاً لمغادرة المنصب. راهن بنعمر على مؤشرات حسن النوايا من الحوثيين وظن أن في وسعه استثمار ذلك ثم وجد نفسه ضحية سوء الحسابات والرهانات. ولعل ما ساهم في الحاق الأذى به هو تطوّع أفراد في فريقه إلى التحدث بلغة ليست من صلاحياتهم فوزعوا آراءهم الشخصية فيما كان من واجبهم تجنب إعلان هواهم السياسي. الآن، على الأمين العام بان كي مون حياكة مهمة جديدة لمبعوثه الخاص، فيغض النظر إن كان جمال بنعمر سيبقى مرحلياً، أو يعين مبعوثاً جديداً. عليه التحرك بسرعة بدلاً من الاستغراق في النمط البيروقراطي البطيء، فاليمن لا يتحمل ذلك النمط. بان كي مون مطالب بأن يقفز إلى الفرصة التي يتيحها قرار مجلس الأمن الأخير، وذلك بإجراءين متوازيين: تعيين مبعوث جديد وفريق جديد بأسرع ما يمكن، ومطالبة الدول الخليجية بأن تغذي الاستراتيجية السياسية بالكثير من المرونة والاستعداد لاستدراك مواقف معينة. والقصد هنا هو الصراحة الضرورية، لجهة التنبه ليس فقط إلى مَن يجب إقصاؤه في اليمن وإنما أيضاً لجهة مَن هو المستفيد كأمر واقع، أو كطرف قد تكون في الذهن الاستفادة منه مرحلياً. والكلام عن كل من «القاعدة» و «الإخوان المسلمين». لا مجال لاستفادة «القاعدة»، لأنها منبوذة سعودياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. إنما من الضروري عدم الوقوع في فخ الاستفادة الموقتة من «الإخوان المسلمين» في اليمن. قرار مجلس الأمن يعطي السعودية فسحة لسياسة خلاقة لعلها تستقطب وساطة دولية جديدة نوعية، ولعلها تبنى على التسابق التركي– الإيراني للوساطة على اليمن بكل سلبياته. المهم أن هناك حاجة ماسة لاستراتيجية سياسية محنكة وجدية إزاء اليمن ما بعد انسحاب باكستان من الاستعجال للالتحاق بـ «الائتلاف» والذي لعله بركة، لأنه يحذف عنصر المذهبية وما سمي بالتجمع السني في الائتلاف من أجل اليمن. المهم، أن على الديبلوماسية السعودية أن تحرز تقدماً على السكتين العسكرية والسياسية معاً. هذا يعني أن على الديبلوماسية السعودية تهيئة آليتين متوازيتين جاهزتين للتفعيل: آلية العملية السياسية لليمن. وآلية الدعم الفعلي للبنية التحتية اليمنية وللشعب اليمني بكل أطيافه ولاقتصاد اليمن. لا مجال للتقاعس ولا مساحة للأخطاء، فهذه مرحلة مصيرية. أحد عناصر الاستدراك في اليمن كي لا يصبح مستنقعاً، هو ضرورة الحديث الصريح بين دول مجلس التعاون وبين ادارة باراك أوباما، التي تمد العون للائتلاف العربي في اليمن بتحفظ، متجنبة انتقاد المد الإيراني الداعم للحوثيين. حان الوقت لإبلاغ واشنطن أن التردد والتحفظ إزاء اليمن غير مقبول، وأن هناك قرارات دولية تمنع إيران حتماً من تقديم أي إمدادات عسكرية لأي أطراف خارج حدودها، في اليمن وفي سورية وفي العراق وفي لبنان وأينما كان. فإذا شاءت الاعتبارات البراغماتية غض النظر عن العراق ولبنان وسورية، لن يكون ذلك مقبولاً في اليمن. العنصر الآخر هو ضرورة البحث عن مجال ما أو صيغة ما للتحدث مع إيران حول أدوارها في اليمن والعراق وسورية ولبنان، خصوصاً أنها على حافة مهمة في علاقاتها مع واشنطن نووياً. هذا يتطلب صياغة استراتيجية شاملة مع إدارة أوباما ومع الكونغرس الأميركي ومع الدول العربية القابلة للتفاهم معها وعلى رأسها العراق. ما قاله رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي في اجتماعه مع مجموعة مصغرة من الصحافيين الأميركيين في واشنطن ليس مفيداً في إطار العلاقة السعودية– العراقية أو الخليجية– العراقية. لعله اعتقد أن كلامه لن ينسب إليه، أو إن نسب الكلام إليه مفيد أميركياً، مهما كان، هذا ليس وقت التصعيد وإنما هو وقت المصارحة حتى لو كان عنوانها الاختلاف في الرأي. بل لعل ما قاله العبادي ضروري في إطار صياغة التفاهمات الضرورية بين الدول الخليجية والعراق ليس فقط لجهة الدور الإيراني في العراق وإنما أيضاً لجهة الدور الخليجي في محاربة «داعش» ونوعية العلاقة الخليجية – العراقية – الإيرانية المرجوة على المدى البعيد. *نقلاً عن "الحياة"