الاتحاد - إذا سألت مستثمراً مغاربياً أو غربياً عما يحس به وهو يأخذ الطائرة هذه الأسابيع إلى دول الساحل وغرب إفريقيا فسيجيبك: «الإرهاب، والعدول عن المبيت هناك أفضل»!، لأنه لا يدري الإنسان من أين تأتيه رصاصة، ومتى سيحدث انفجار أو اختطاف وهو يقيم في أحد الفنادق المصنفة القليلة المتواجدة هناك. والأدهى من ذلك أن المستثمرين ورجال الأعمال الكبار خوفاً على حياتهم يعدلون عن الذهاب إلى تلك المناطق ويرسلون المديرين العامين والمستخدمين. ومؤخراً كانت هناك عملية إرهابية (17 يناير 2016) على مطعم «كاباتشينو» وفندق «سبلنديد» في مدينة واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو، أوسفرت عن مقتل 29 شخصاً وجرح 30 آخرين... وهي تدخل في سلسلة متتالية من الانفجارات والهجمات في تلك المنطقة وخاصة ذلك الذي شهده فندق «راديسون بلو» في باماكو عاصمة مالي وأدى إلى مقتل 20 شخصاً بينهم 14 أجنبياً في 20 نوفمبر 2015، ناهيك عن عمليات الخطف المتتالية للأجانب.
والدول هناك دول ضعيفة، والمؤسسة الأمنية غير قادرة على حماية حدودها بتمكن، ولا على محاربة تغلغل الحركات الإرهابية العابرة للبلدان والقارات. وإذا كان التدين الصوفي الشعبي (القادري- التيجاني..) هو الحاضر منذ القدم في تلك المجتمعات لعوامل تاريخية، فإن الاتجاهات المحافظة المتزمتة بدأت تطرق أبواب تلك الدول بطريقة مثيرة، إلى أن وصلتها الجماعات والحركات الإرهابية القادمة من الجزائر والصومال ونيجيريا، وهي اتجاهات لم تعهدها دول في السابق كالنيجر حيث يمثل فيها المسلمون 90 في المئة وهم مالكيون سُنة، وبوركينا فاسو، والمسلمون فيها مالكيون ومتصوفون بطبيعتهم حيث تسود علاقة الشيخ والمريد.
ولا يخفى على كل متتبع للأنظمة السياسية في هذه المنطقة الجغرافية الحساسة الممتدة بين ليبيا وتشاد ومالي والنيجر وبوركينا فوسو أنها أنظمة تواجه تحديات جسيمة من حيث التمثيلية الديمقراطية والإمكانيات الاقتصادية وضعف القدرة الشرائية للمواطنين وعدم قوة الحضور الأمني والعسكري الفعال في داخل المدن وعلى الحدود، لتبقى فريسة للتنظيمات الإرهابية التي بدأت تنظر إليها كمنطقة صالحة للاستيطان واستقطاب البشر وتنفيذ العمليات. وهناك حالة تستغلها هذه التنظيمات في هذه المناطق الشاسعة خلافاً لأخواتها في سوريا والعراق، أنها تستفيد من عائدات التجارة في المخدرات والأسلحة والبشر في إطار علاقات متداخلة وأخطبوطية مع منظمات الجريمة الدولية ومع قبائل وإثنيات في صحراء مالي أو تلك التي بجوار البحيرة الكبرى في التشاد. وهذه التجارة تدر على التنظيمات الإرهابية كـ«القاعدة» و«المرابطين»، حسب مكتب الأمم المتحدة لشؤون المخدرات والجريمة نحو 400 مليون دولار في السنة، لتصبح تلك الدول منطلقاً آمناً للمخدرات (كالكوكايين مثلًا) إلى أوروبا عبر غرب إفريقيا، ولتباع الأسلحة التي تأتي بحراً إلى بنين وتوغو في كل دول المنطقة.
وهذا الوضع المؤلم الذي تعاني منه هذه الدول وستعاني منه مستقبلًا بسبب تنامي تلك التنظيمات الإرهابية، ما كان ليتفاقم لولا غياب الدولة في ليبيا. فهناك تداخل قوي بين الانفلات الأمني، وظهور «الدواعش» في ليبيا وانتشار الفوضى وانعدام الأمن، وما يجري في منطقة الساحل وغرب أفريقيا. ولم يمنع تواجد القوات الفرنسية ذات الحضور القديم في المنطقة، وحضورها العسكري المكثف، من الحيلولة دون تنامي خطر الإرهاب الذي سيحدث مع مرور الزمن شرخاً عظيماً في كينونة ومستقبل الأجيال.
والقوات العسكرية الفرنسية متمركزة بقوة في مالي منذ تدخلها العسكري يوم 11 يناير 2013، وقد أعادت نشر حوالي ثلاثة آلاف من قواتها في منطقة الساحل الإفريقي، والخبراء يعرفون أن لها قاعدة عسكرية في تشاد تنطلق منها طائراتها وقواتها الجوية، ولها قوة عسكرية برية في بوركينا فاسو وقاعدة عسكرية في ساحل العاج مخصصة للإمدادات اللوجيستية. وأهل الاستراتيجية والخبراء يعرفون غنى المنطقة وما تتوافر عليه من يورانيوم (فالنيجر تمد فرنسا بـ35 في المئة من احتياجاتها من هذه المادة المهمة في صناعة الطاقة النووية) وهذه الخيرات تسيل لعاب دول كبرى كالولايات المتحدة الأميركية والصين، لتستثمر تلك الدول مصالحها الخاصة وتجعل منها منطقة داخلة في إطار أمنها الحيوي والاستراتيجي، وليدعي البعض منها أنه يحارب بجد جرثومة الإرهاب القادم من خارج الحدود أو المتولد من رحم الدول، ولكن في الحقيقة شعوب المنطقة هي التي تدفع فاتورة استنزاف خيرات المنطقة من الدول الغربية، وتؤدي ثمن نفاقها عندما لا تفكر هذه الأخيرة إلا في مصالحها الخاصة، وهي التي تؤدي في الأخير ثمن تواجد وتوالد الحركات الإرهابية.