2016-02-11 

أميركا والكيانات القومية الهجينة

أمين بن مسعود

العرب - مرّة جديدة تؤكد الولايات المتحدة الأميركية أنّها صديقة “الكيانات” الهوياتيّة المزروعة في الجسد العربي المحتضر، حتّى وإن أفضى بها هذا الرهان إلى توتير العلاقات مع الشركاء الإستراتيجييّن التاريخيينلم تكن واشنطن خارج الحسابات العسكرية والمعادلات السياسية في منطقة الشرق الأوسط عندما أشارت الأربعاء على لسان جون كيربي، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، أنّ حزب الاتحاد الديمقراطي الكرديّ ليس حزبا إرهابيا على عكس تصنيف أنقرة له التي تعتبره النسخة السورية من حزب العمّال الكردستانيّ.

 

في هذا السياق بالإمكان مقاربة موقف الدبلوماسية الأميركية من الاتحاد الديمقراطي الكردي على أنّه التعبير الأمثل عن جوهر الإستراتيجيا الأميركية في المنطقة العربية، وأنّ كافة المواقف الأخرى المعلن عنها والمعارضة للحزب الكردي إنّما تتنزّل في سياق استرضاء الفاعل التركي، وانتظار تداعي الأحداث والأمور في المشهد السوريّ بالتحديد.

 

وبغض النظر عن التفسير المباشر لهذا الموقف الأميركي الذي قد يربط برفض واشنطن لاستبعاد الأكراد من محادثات جنيف 3 واعتبارهم جزءا من المعادلة العسكرية وبالتالي مفصلا محوريا في تسوية المعضلة الشاميّة، ودون الوقوف مطوّلا أيضا في معارضة واشنطن الجزئيّة للمشروع التركي المتجسّد في إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري الأمر الذي قد يضع تركيا الأطلسيّة في صراع مباشر مع روسيا، وهو الصدام الذي تتجنبه أميركا حاليا على الأقلّ، فإنّ الموقف الأميركي من الأكراد مرتبط أيضا بتمثّل إستراتيجي عميق لطبيعة الدور المنوط بـ”الهويات الأقواميّة” في الشرق الأوسط.

 

ذلك أنّ فلسفة تحويل الأقليات الوطنية إلى أقليات قوميّة تعتبر ذاتها مستقلة تاريخيا ولغويا وثقافيا عن الدولة الأمّ، وبالتالي البداية في المطالبة بالنأي عن السلطة المركز في مرحلة أولى عبر مطالب الفدرلة أو الحكم الذاتي ومن ثمّة تدويل القضيّة قصد الحصول على دويلة قاصرة على الديمومة والاستمرار دون معونة خارجية، تعتبر من عميق الإستراتيجية الأميركية التي لا تتردّد في اعتمادها في الجغرافيا العربية بالتحديد.

 

لم يكن إنشاء وزارة الخارجية الأميركية لقسم مستقل بذاته يعنى بوضع “الأقليات” في العالم ويصدر تقارير سنويّة دوريّة، ضربا من ضروب الرفاه الديمقراطي فواشنطن تقارب “الهويات” الثائرة والقلقة كأحصنة طروادة تستغّلها تارة بالابتزاز السياسي والإستراتيجي، وطورا بتوظيفها ضمن مشاريع التقسيم والتفتيت.

 

كانت واشنطن وراء مطلب إنشاء حكم ذاتي لأكراد العراق الذي بات عقب حرب الخليج الثانية عام 1991 الديباجة الأولى لتقسيم العراق طائفيا وعرقيا بنصّ الدستور، كما لم تغب الإدارة الأميركية عن الوقوف وراء متمردي جنوب السودان لإنشاء كيان هجين غير قادر على العيش ولكنّه قادر على تأبيد المشاكل والتوترات لما بقي من جمهورية السودان، واحتضنت أميركا دعوات مأسسة التباين والاختلاف والتنافر التي يطلقها متطرفو الأمازيغ في شمال أفريقيا دون استيعاب لشواهد الحاضر القريب.

 

واليوم تلعب واشنطن في سوريا على نفس الوتر العرقي الأقلياتي لإثنية خبرتها طويلا وعرفت هواجسها وتخوفاتها في سياق إقليمي عجز عن فعل الاستيعاب والاحتواء، وبالتالي إرساء مبدأ “الاختلاف ضمن الوحدة” فصار أبناؤه عرضة لاستغلال أميركي ذكي يقوم على “الخلاف ضمن الاختلاف”. حروب أميركا الجديدة، الرخيصة من حيث التكلفة والثمينة من حيث الأهداف، تقوم على تدمير الجيوش من الداخل، وإضعاف السلطة المركزيّة، ونشر الميليشيات وإحياء العرقيات وإنشاء الكيانات الهجينةسوريا هي النموذج القائم اليوم بكلّ وضوح لمثل هذا التفكير الأميركي، وليبيا لن تكون بعيدة عن مثل هذا السيناريو الكارثي الذي يستعصي عن أي مبادرة لإعادة الإعمار ويحول دون أي محاولة لإعادة قيام الدولة أو جزء منها على الأقلّ.

 

على أنقرة التي هالها الموقف الأميركي عدم الرهان طويلا على معارضة أميركية للنسخة السوريّة لحزب العمّال الكردستاني، فواشنطن يهمّها تقسيم المنطقة أكثر من وحدة تركيا، ويشغلها تفتيت الشرق الأوسط أكثر من وحدة الأكراد أنفسهمإن كان من حقّ للأكراد في كيان مشترك فليكن على غير حساب حقوق الجغرافيا العربية في التواصل والوحدة، وإن كان من حقّ الأكراد في دولة فلتكن دولة على غير نموذج جنوب السودان حيث وحده تناقض جوبا ضدّ الخرطوم، وتناقض الجنوبيين ضدّ بعضهم البعض يحكم في سلطة السراب والأوهام.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه