2016-02-12 

السعودية في ما تفصح عنه كواليس الجنادرية

محمد قواص

العرب - ينتهي مهرجان الجنادرية، تُسدل الستارة على العرض، تنطفئ أنوار الحدث، تخلو القرية التراثية من زائريها، ونغادر وضيوف المناسبة أراضي المملكة العربية السعودية. وما بين الوصول والإياب تمرين لفهم يوميات البلد وهواجسه، وإدراك ما الذي تغيّر وما الذي تبدّل في مزاج الحكم والحاكم، كما في المزاج العام للمملكة.

 

لا بدّ للمراقب للشأن السعودي أن يلحظ اهتمام البلد، دولة ومجتمعا وإعلاما ومؤسسات، بموضوع الأمن، الأمن بمعناه اليومي الداخلي، وذلك بمعناه الإستراتيجي الخارجي العام. ولا ريب أن البلد الذي يتركز همّه الأول حول الأمن، يلتصقُ مزاجه وحراك الحكم فيه بمحددات وشروط الوقاية والحماية والدفاع والردع. وعليه سيكون سهلا ملاحظة أن السعودية في حالة حرب لا يمكن لمهرجان ثقافي هادئ أن يخفي ملامحها.

 

سيلحظُ المراقب ما تحمله الصحف السعودية من حبر يسال وما تفرده الصفحات لتناول شؤون الإرهاب. تطالعك الصحف بمضامين اجتماعية وأسرية وأمنية ودينية تقارب شؤون التطرف وأذرعته الإرهابية. تخبرك جرائد الرياض (وليست جرائد العواصم البعيدة) أن المحاكم السعودية تنظر بما نسبته سبعة ملفات يوميا لها علاقة بالإرهاب. تبشرك بيانات وزارة الداخلية التي تنشرها تلك الجرائد، أن جهود قوى الأمن الاستباقية أحبطت 250 عملية تفجير كانت قيد التنفيذ. وإذا ما جمعت تلك الأرقام وأضفتها إلى ما ارتُكب سابقا من اعتداءات إرهابية، تستنتج أن المملكة تجابه مخاضا داخليا يوميا، يختلط فيه الأمني بالثقافي الاجتماعي، بما يشبه الحرب الحقيقية التي تأخذ بعدا أخطر من تلك التقليدية التي تخاض على الجبهات، حيث العدو خارجي (أي ضد الآخر)، سافر الوجه معروف الوجهة ومُعلن الوجود.

 

من أجل الدفاع عن أمن المملكة الإستراتيجي، انتقلت الرياض من دبلوماسية الصمت إلى دبلوماسية الضجيج، ومن إستراتيجية الاحتواء وتجنب الصدام إلى إستراتيجية المواجهة المباشرة. تفهمُ في العاصمة السعودية أن الأمن الإستراتيجي للمملكة أملى شنّ الحرب في اليمن، ذلك أن حدث اليمن، منذ أن أُحبطت مبادرتها التسووية، ومنذ أن أطاح الحوثيون بأي شرعية في اليمن، بات يستدعي فتح المعركة اليمنية على رأس تحالف تتباين أدوار أعضائه.

 

وفي تقييم الحرب في اليمن أخذٌ وردٌّ ونقاش. في لبّ الجدل أن الحرب أوقفت التمدد الحوثي القادم من صعدة، وحالت دون أن يفيض الخطر نحو الداخل السعودي. لم يكن ذلك الخطر هوسا متخيلا، بل إن أصواتا صدحت من حناجر المترجلين من صعدة “تبشر” بأن “الثورة” لن تنتهي قبل أن يشمل وهجها كلّ الجزيرة العربية. وفي لبّ الجدل أن تلك الحرب عاجزةٌ، حتى الآن، عن حسم “الملف اليمني”، بما ينذر بامتدادها دون أفق منظور، وأن خامةٓ الحرب الحقيقية وجذور أسبابها يمنيُّ النسيج يندرج العامل الإيراني فيه في حدود انتهازية تمّ إجهاضها.

 

وفي هواجس الأمن ورشةٌ يومية تعيدُ تموضع المملكة داخل المشهد الدولي. لا تثق الرياض بالمظلّة الأميركية الإستراتيجية التقليدية. انتهت الحقب القديمة وتبدّلت الاصطفافات الدولية وانقلبت بوقاحة في الشرق الأوسط. تأخذُ العاصمة السعودية علما بالتقدم الروسي، الذي يبدو نهائيا، في المشهدين الإقليمي والدولي. لا تبتعدُ السعودية كثيرا عن الظلال الغربية (الأميركية أساسا) ولا تندفع شرقا نحو منابر موسكو وبكين. تتعايشُ الرياض مكرهةً مع تحوّلات العالم المؤلمة، والسريالية غير المفهومة، وتسعى نحو أهدافها، وربما لأول مرة في تاريخها الحديث، من خلال قواها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية الذاتية، بما يميط اللثام عن “مواهب” متميّزة أحيانا، ومتعثرة مرتجلة أحيانا أخرى.

 

وفيما الصخبُ يعلو على جبهة اليمن، وفيما النزالُ هناك واضح جليّ شفاف معلن، يلفّ الغموض خيارات السعودية في ميادين السجال الأخرى. تواصلُ الدبلوماسية السعودية تأكيد موقفها في سوريا، وتذهبُ منابرها العسكرية للتلويح باستعداد البلد لتدخّل عسكري بري هناك. يتواكب الأداء السعودي مع هيمنة النيران الروسية وما يوحيه وقعها من تغطية دولية كاملة، رغم التصريحات المتحفّظة التي تفصحُ عن تكلّف، في انتقاد إستراتيجيات موسكو هناك. وينسحب الغموض في الموقف السعودي على سياساتها في لبنان، التي قد يصفها المتشائمون بالانسحاب والتسليم للسطوة الإيرانية التي تمارسها طهران من خلال حزب الله. وفيما يخرج التشاؤم من عباءات الغموض، يواجهك الصمتُ الذي لا بدّ أنه يزيدُ الغموض غموضا.

 

مقابل ذلك يتحدث السعوديون عن مسألة التدخل البري في سوريا بصفته أمرا بات حتميا. تتذكر معهم تصريحات عادل الجبير المتكررة منذ شهور حول أن رحيل بشار الأسد سيتم عبر المفاوضات وإلا عبر الخيار العسكري، فيما تطل العلامات تلو الأخرى عن تحضيرات ذلك الخيار، لا سيما في مرافقة رئيس الأركان التركي لأحمد داوودأوغلو، رئيس الوزراء التركي، أثناء زيارته الأخيرة للرياض. ثم أن الأمر يتقدم بصفته جهدا إقليميا لطالما توقعه وزير الخارجية الأميركي جون كيري سابقا وهو يلقى ترحيبا من قبل الرئيس الأميركي باراك أوباما. ثم أن أمر ذلك التدخل لم يلق معارضة روسية رسمية، فيما توحي تصريحات ملك البحرين، القريب من الرياض، في موسكو أن التدخل يلقى رعاية روسية أيضا. التدخل البري جدي منذ أن سخرت منه طهران حين الإعلان عنه وصارت تعارضه بقوة هذا الأيام.

 

سيلحظ الزائر أن المملكة في عصر النفط ذي الـ30 دولارا للبرميل، وليست في ذلك ذي الـ140 دولارا. يعاد ترتيب الأوليات وتقييم الميزانيات ويجري التأقلم مع المؤشر النفطي الممعن في الهبوط. يردُّ السعوديون عنهم تهمة المسؤولية عن هذا الانهيار نكاية بإيران أو روسيا، فهاجسهم يأتي من ذلك الذهب الأسود المنافس الذي تنتجه الصخور، لا سيما في الولايات المتحدة، والذي يشكّل التهديد الإستراتيجي الحقيقي على أمن المداخيل التقليدية الأولى للسعودية. ولئن تمتلك المملكة احتياطيات نقدية تمكّنها في الأجل القصير من استيعاب الوجع المالي، إلا أن تراكم ما هو اقتصادي فوق ما هو أمني يفاقمُ من عملية إدارة البلد داخل أنواء هبت، وعواصف لا أفق لتبددها.

 

لا خارطة طريق واضحة تشرح المرونة والبراغماتية التي يمكن أن تتحلى بها خيارات الرياض. سيكون عسيرا تسويق حزب الإصلاح في اليمن، وهو حليف ميداني داخل “عاصفة الحزم” دون الأخذ في الاعتبار حساسيات الحلفاء الذين يجاهرون في مكافحة “الإخوان”. سيكون عسيرا تطوير علاقة إستراتيجية مع تركيا، دون أن تكون مصر شريكا أصيلا داخل هذا التحالف. وسيكون عسيرا المضي قدما في توسيع المسافة مع المؤسسة الدينية، فيما للمواجهة مع إيران جانب يتعلق في الجهة الجديرة بتمثيل الإسلام والتحدث باسمه. وسيكون عسيرا قيادة تحالف إسلامي متعدد الهويات لمكافحة داعش، فيما تنظيم البغدادي أداة من أدوات الصراع الإقليمي الراهن.

 

وما هو عسير لا يعني أن تحقيقه مستحيل. وإذا ما غابت الأجوبة فلأن السعودية تواجه الأسئلة التي تداهمها وتجهد للاهتداء إلى المخارج بما تيسّر من سبل. والحقيقة فإن زوار الجنادرية يلحظون أن الردود لم تعد جاهزة يسهل إخراجها من خزائن التراث، لكن البلد في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، في هامش الجدل والسؤال، المتسرّب أحيانا والمُجاهر به أحيانا أخرى، يرتكب مقاربات لا سابق لها تحضّر البلد لتغيرات في الشكل والمضمون على وتيرة أسرع من تلك التي داهمت المملكة في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه