العرب - أخطأ سنة العراق حين صدقوا أنهم خسروا السلطة عام 2003. أما شيعة العراق فإنهم أخطأوا أيضا حين صدقوا أن السلطة ستؤول إليهم. في حقيقة الأمر، إن العراقيين كلهم خسروا يومها السلطة التي لم تكن حكرا على السنة يوما ما، وإن كانت زعامة الدولة العراقية ومنذ تأسيسها قد أنيطت بسياسيين منهم.
فالمحتل سلّم السلطة إلى المتعاونين معه من سياسيي المعارضة السابقة الذين تعهدوا له أن لا يكتفوا بتحطيم الدولة العراقية، بل وأن يؤدّوا واجبهم في تمزيق النسيج الاجتماعي في العراق، فكانت أكذوبة استبدال طائفة حاكمة بطائفة حاكمة جديدة هي المعول الأول، خلال حقبة سيكون القتل على أساس الهوية الطائفية أبرز ملامحها. كانت خيانة مبيتة لعبت بعقول البسطاء من الناس ممن سحرتهم فكرة المظلومية. وهي فكرة تتناقض كليا مع ما عاشه العراقيون من وقائع حياة قبل أن تحل كارثة الاحتلال وتعصف بكيانهم.
فالدولة العراقية لم تقم على أساس طائفي. لذلك لم يشهد العراق أي نوع من الإقصاء أو التهميش أو العزل على أساس مذهب المرء أو الطائفة التي ينتمي إليها. كان التراضي في غياب قوانين المواطنة الحقة هو المبدأ الذي يستند إليه العقد الاجتماعي. ولأن الدولة في العراق لم تكن متديّنة، ولم تكن في الوقت نفسه ملحدة فلا يمكن الحديث عن تسيّد طائفة على أخرى أو فريق على آخر. وهو ما يشهد عليه تساوي العراقيين في فرصهم في التعليم والتوظيف والرعاية الصحية وممارسة الأعمال والخدمات العامة واختيار موقع السكن وأداء الطقوس الدينية المعتدلة، من غير أن يكون لعرق المرء أو ديانته أيّ أثر يذكر.
وإذا ما كان النظام الذي قاده حزب البعث في الثلاثة عقود الأخيرة من عمر الدولة العراقية قد أحدث خللا في تلك المعادلة الحساسة، فذلك مرده إلى أن ذلك النظام العقائدي قد قدم الولاء للحزب على مبدأ المواطنة المستقلة بغاياتها والحرة في سلوكها. لم يكن النظام يومها ليغفر لأحد معارضته بسبب سنيته. في المقابل لم يكن الشيعة موقع شك وريبة وإلا ما كان الجزء الأعظم منهم قد ارتقى وظيفيا ليصل إلى أماكن حساسة في الدولة. من له معرفة عميقة بآليات علاقة النظام السياسي بالشعب في العراق لا بدّ أن يكون مدركا للزيف الذي تنطوي عليه المقولات المطلقة التي سعت سلطة الاحتلال الأميركي، ومن بعدها الأحزاب الدينية الحاكمة، إلى الترويج لها وتسويقها باعتبارها حقائق عيش.
لم يكن العراقي “السني” في منجى من العقاب إن ارتكب معصية في حق النظام، ولم يكن العراقي “الشيعي” منبوذا ومزدرى ومهمشا بسبب شيعيته. بالنسبة لنظام البعث الذي كان يتشكل من أغلبية شيعية، حسب التصنيف الحالي لم يكن العراقيون موزعين بين طائفتين “سنية وشيعية”، بل كانوا يتوزعون بين طائفتين “موالية ومعادية”. ولم تكن الحرب التي شنها النظام على حزب الدعوة الذي يحكم العراق اليوم بسبب شيعية أعضاء ذلك الحزب، بل بسبب تبعيتهم إلى إيران. فهل غض النظام الطرف عن جماعة الإخوان المسلمين بسبب سنية أعضائه؟ لو أنه فعل ذلك لكان من الممكن الحديث عن طائفية سياسية. غير أن النظام وهو الذي لم يتبجح بالعلمانية كان قد حمى العراقيين لعقود من السقوط في مستنقع الطائفية السياسية حين أبعد رجال الدين من التعامل مع الشأن السياسي.
ما يعيشه العراق اليوم من مآس يؤكد صواب المنهج الذي أتبعه نظام البعث الذي حكم العراق خمسا وثلاثين سنة من غير أن ينبس العراقيون بكلمة واحدة تكشف عن طائفيتهم. كانت هناك دعابات تكشف عن استخفافهم بالملل والنحل التي صدرها العراق إلى العالم الإسلامي. وما يؤكد ذلك أن العراقيين قد قاتلوا الإيرانيين باعتبارهم فرسا، ولم يخطر في بال أحد منهم أن يكون خادما لفارس بذريعة شيعيته.ما يحدث اليوم هو استثناء في التاريخ العراقي الحديث. غير أن ما يُبقي شرارة الأمل مستعرة في الصدور هو أن دولة الطوائف لم يبنها العراقيون بأنفسهم، بل فرضت عليهم. لذلك فإنها ستزول ما إن تعلن إفلاس مشروعها في القريب العاجل.