الرياض - لا يمكن تغيير الواقع؛ دون تغيير أنماط التفكير التي تتعاطى - فِعْلا وانفعالا- مع هذا الواقع. صحيح أن الواقع تصنعه الأفكار؛ بقدر ما يصنعها، ولكن، هذا لا يجري آليا؛ وإلا لتطابق المستقبل مع الماضي ضرورة. لهذا كان الوعي الإنساني القادر على إجراء تحولات نوعية في الفكر من خلال اختراق آلية هذه الجدلية، هو ما يمكن الرهان عليه في تثوير وقائع التغيير.
وإذا أردت أن تُحدث تقدّما/ تغييرا ما، في مجتمع ما؛ فلا بد من تغيير بنية الوعي العام بمستوى التقدم/ التغيير المأمول. وهذه العملية (تغيير بنية الوعي العام) لا تتأتّى إلا بقراءات منهجية نقدية تتعمد إحداث تغييرات نوعية في التراثيات المتعالية الناظمة للإدراك الكلي، التراثيات المتحصنة ضد النقد من أجل تثبيت مقولاتها، إذ لا تكتسب شرعيتها، ولا تقوم بوظيفتها، إلا من خلال أهم عناصرها: عنصر الثبات.
كان من المستحيل أن ينعتق الغرب من أسر القرون الوسطى لو أنه بقي غربا كاثوليكيا أو أرثوذكسيا، ولولا الإصلاح البروتستانتي الذي أخرج الوعي الأوروبي العام من عُنق الزجاجة التراثية؛ لبقيت أوروبا كغيرها، ولما صنعت مصير العالم الحضاري بحضارة هي الاستثناء في التاريخ.
والأهم في كل هذا، أن هذا الإصلاح البروتستانتي لم يحدث كطفرة في فراغ، بل حدث نتيجة تراكمات النقد المعرفي الفلسفي المتواشج مع تطورات العلم؛ ما أحدث مستوى من الريبة العامة التي تضع الأرضية الخصبة للانفعال الغاضب بهذا النقد المُمنهج للتراث. وقد ساعد على تنامي هذه الريبة – ومن ثم الغضب؛ فالتمرد - أن المؤسسات الكهنوتية كانت شريكا للطغيان السياسي في الاضطهاد الذي انعكس بؤسا واقعيا على حياة الملايين.
طبعا، تتماثل الأمم، وتتشابه التراثيات من حيث طبيعة التكوين والبُنية والوظيفة؛ فما يجري على بعضها يجري على الآخر. وهنا نأتي إلى الدين والتدين في العالم العربي، حيث نجد الدين (نؤكد أن المقصود الدين كمنظومة بشرية تأويلية، وليس كنصوص مقدسة) ليس العنصر الأكثر فعالية في الوعي الجمعي/ العام الذي يجب تغييره كمقدمة ضرورية/ شرطية للتغيير فحسب، وإنما هو عنصر فعّال، مباشر، وأساسي في كثير من المآسي والفتن والصراعات التي تكاد تأخذ كثيرا من أوطان العرب إلى دمار شامل ينفتح على المجهول.
انظر إلى الحروب البَيْنية داخل الدول أو بين التكتلات الإقليمية؛ ستجد أنها تشتعل على الأرض بوقود الرؤى الدينية؛ حتى وإن كانت السياسة وتجاذباتها هما الدافع الأعمق. المهم، أن البشر الذين هم وقود هذه الصراعات ينجذبون إليها، ويُغذّونها بأرواحهم ودمائهم وأشلائهم مدفوعين بهوس الشعارات العقائدية التي حولت علاقتهم مع مواطنيهم وجيرانهم إلى علاقة توحّش، بل لقد أصبحوا وحوشا حقيقية، لا يستنكفون مما تستنكف منه الذئاب.
إذن، التجديد الديني في العالم العربي ليس ترفا، بل هو ضرورة إنسانية وحضارية ووطنية؛ كي نستطيع الخروج من توحش الوعي، ومن تخلف الوعي، ومن تأزمات الأوطان التي لا قوام لها إلا بالسلام الداخلي الذي لا يمكن أن ينشأ إلا عن طريق تعميم التسامح الثقافي/ الديني بين مكونات المجتمع المختلفة، مدعوما – في الوقت نفسه - بالردع القانوني الذي يحفظ ما يتساقط من بين يدي الثقافة. فالتوحش والتخلف والتأزم، كلها أحوال تستوطن العالم العربي المريض، وهي ليست إلا انعكاسا لأعطاب كامنة في بنية الوعي العام/ الجمعي الذي يصوغه – بالدرجة الأولى – خطاب التّدْيِين السائد جماهيريا.
لكن، هذا التجديد الديني المأمول، والذي بدأت بعض خطواته الخجولة هنا وهناك، لا بد له من مشروعية تاريخية تجد سندها في قدسية التشريع نصّاً أو ممارسة. لا يمكن أن تقول لجماهير الديني المأخوذة بأوهام المتعاليات: إن ثمة تغييرا في الخطاب؛ لمجرد أن الواقع العملي يتطلّب ذلك. في مثل هذه الحال، المتدينون – والجماهير العربية متدنية بشكل أو آخر - سيقولون لك صراحة: إن على الواقع المتغير أن يخضع لثابت الدين، وعلى غير القدسي أن يخضع ويستجيب للقدسي، وأن متطلبات الخلود الأبدي سعادة أو شقاء أولى بالمراعاة من متطلبات اللحظة العابرة..إلخ.
وحينئذٍ، لن يستطيع التجديد الديني أن يعمل بحق، لا في الثقافة ولا في الواقع؛ مهما أوتي من براعة القول؛ ومهما بدا الواقع يدفع باتجاه وعي نوعي بضرورة هذا التجديد.
لهذا، اتكأ (إعلان مراكش) بصورة أساسية على صحيفة المدينة، أو دستور المدينة كما يصفها بعضهم، وهي الصحيفة التي نصت بنودها على دولة توافقية، تُكفل فيها الحريات الدينية، ويسود فيها القانون على الجميع، حتى لتكاد أن تكون مقاربة لنصوص الدولة المدنية الحديثة، خاصة وأن مبدأ الحرية الاعتقادية فيها يقترب كثيرا مما هو موجود الآن في دولة المواطنة المدنية. لهذا أكّد البيان صراحة على أن صحيفة المدينة هي الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات في العالم الإسلامي. والتأكيد على (المبدئية) هنا، هو تأكيد مقصود؛ حتى تكون مبادئ الصحيفة نقاطَ انطلاق، لا حدودَ تأطير. وهذا يعني إمكانية تطويرها لتكون نصا إلهاميا لمزيد من الإبداع في مضمار هذه الحقوق.
ولإدراك المؤتمر/ الإعلان أن المتطرفين/ المتزمتين كثيرا ما يشغبون على هذه الصحيفة ثبوتا وتأويلا، ارتأى ضرورة التأكيد على أنها ثابتة عند أئمة الأمة الأعلام. وزيادة في التأكيد، نص البيان/ الإعلان على أن هذه الصحيفة لا تخالف نصا شرعيا، وليست منسوخة، بل تُجسّد المقاصد العليا للإسلام. وأيضا، ولمزيد من تأكيد مشروعية تأويلها، كانت الإشارة واضحة إلى أنها صحيفة سلمية، لم تنتج عن حروب وصراعات، بل نتيجة عقد بين جماعات مُتَسَاكِنة مُتسالمة. وكل هذا، حتى لا يأتي أحد المتطرفين فيميل بتأويلها عن ظواهر نصوصها؛ بدعوى أنها كانت تعبيرا عن حالة اضطرار سابقة على انتصار/ تمكّن الإسلام.
يعي المؤتمرون أن إعلان الصحيفة والترويج الثقافي لها في أوساط الجماهير لا يكفي لخلق حالة تسامح مع الأقليات. لهذا نجدهم يصرحون بأن الاحترام والتسامح لا يكفيان، بل لا بد من الإلزام بالحقوق والحريات التي كفلها القانون. بمعنى أن الواجب تنزيل مقاصد الصحيفة على هيئة قوانين ملزمة. ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن تكون هي الإطار العام للدساتير الوطنية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة؛ ليمكن تنزيلها في أنظمة وقوانين تفصيلية غير قابلة للتراجع عنها مع التحولات التي تجري في مواقع النفوذ داخل إطار السلطات التنفيذية التي قد تتحكم في إدارة بعض مؤسسات التشريع.
ولتفعيل كل ذلك؛ يدعو المُؤتَمِرون:
1- علماء ومفكري المسلمين بأن ينظروا لتأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات، بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهي والممارسات التاريخية وباستيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم.
2- المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية إلى القيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية، للتصدي لإخلال الثقافة المأزومة التي تولد التطرف والعدوانية، وتغذي الحروب والفتن، وتمزق وحدة المجتمعات.
3- الساسة وصناع القرار إلى اتخاذ التدابير السياسية والقانونية اللازمة لتحقيق المواطنة التعاقدية، وإلى دعم الصيغ والمبادرات الهادفة إلى توطيد أواصر التفاهم والتعايش بين الطوائف الدينية في الديار الإسلامية.
4- مختلف الطوائف الدينية التي يجمعها نسيج وطني واحد إلى معالجة صدمات الذاكرة الناشئة من التركيز على وقائع انتقائية متبادلة، ونسيان قرون من العيش المشترك على أرض واحدة، وإلى إعادة بناء الماضي بإحياء تراث العيش المشترك، ومد جسور الثقة بعيدا عن الجور والإقصاء والعنف.
5- ممثلي مختلف الملل والديانات والطوائف إلى التصدي لكافة أشكال ازدراء الأديان وإهانة المقدسات وكل خطابات التحريض على الكراهية والعنصرية.
أوردت هنا أهم التوصيات؛ حتى يبدو لنا حجم الآمال التي تتمدد على مساحة هذا الإعلان. وعموما، فكل ما جاء في الإعلان جميل، وسيكون له أثر كبير؛ لو تم تفعيله وفق ما ورد في التوصيات. لكن، ما نخشاه في هذا السياق، هو أن يكون هذا الإعلان مجرد إعلان/ إشهار براءة من أفعال التطرف الإسلامي؛ دون إرادة حقيقية لتفعيله على أرض الواقع. أي أن يكون دافعه حماية الجاليات التي تنتسب للأكثرية الإسلامية في بلاد الغرب، وليس حماية الأقليات الدينية والمذهبية في البلاد ذات الأكثرية المسلمة، خاصة وأننا نجد في مقدمة الإعلان إشارة صريحة تؤكد أن من دوافع عقد المؤتمر: تلك الجرائم التي ترتكب باسم الإسلام، وتُعرّض دين أكثر من مليار مسلم للتشويه، بحيث أصبحوا عرضة للكراهية والنفور والاستفزاز.
هنا، يحق لنا أن نتساءل: هل ما يتعرض له المسلمون من كراهية ونفور واستفزاز هو الدافع لمثل هذا الإعلان، أم الدافع له ما يتعرض له أتباع الأقليات من تقتيل وتشريد وسبي، وهم الذين ينص عنوان الإعلان أنه مكتوب لحمايتهم؟
وإذا صدق احتمال كون الدافع الأساس حماية المسلمين من الكراهية والنفور والاستفزاز، وليس حماية الأقليات، فهذا يعني أن الدافع غير إنساني، وبالتالي، غير ثابت، بل ظرفي، يتغير بتغير الأحوال، أحوال الأكثرية، لا أحوال الأقليات.
بقي أمر أخير، وهو أن الوقائع الإرهابية/ الإجرامية المنتسبة للإسلام، والتي يشاهدها العالم أجمع، وتتكرر على مرأى ومسمع منه في اليوم عدة مرات، وتقترن بأبشع صور الإجرام، لن ينفيها من الأذهان مجرد الكلام. لم ولن يزحزح الصور من مكانها مجرد الشجب وإعلان البراءة، بل لا بد من (أعمال إنسانية مضادة)، تزاحم الصور السلبية التي تتراكم بحكم ما يصدر عن المتطرفين المنتسبين إلى ديننا. وهذا لا يكون إلا بأن نجتث الإرهاب المستشري في منطقتنا بأيدينا، ابتداء بتفكيك منظومات الأفكار التقليدية السائدة المتخمة بمقولات التكفير والنفي والإقصاء، وانتهاء بتدمير آخر ملجأ لآخر إرهابي. فبهذا - وبهذا وحده - نثبت بالأفعال أننا أعداء الإرهاب. وسيصدقنا الجميع، حتى مَن كان يُكذّبنا؛ عندما ندخل في حرب معلنة وشاملة ومفتوحة مع كل مراحل الإرهاب.