الاتحاد - لم تكن ندوة «الشباب وأدوات التواصل الاجتماعي» التي انعقدت بالكويت يناير 2016، مجرد تبادل لمعارف تقنية، أو استعراضاً لآفاق «الثورة الرقمية»، أو معرفة آخر الأرقام والإحصائيات والتكاليف فحسب، بل أظهرت لي على الأقل، واهتماماتي ليست تقنية ولا «شبابية»، كيف أننا ولجنا عالماً شديد التعقيد والتأثير على أوضاعنا الاجتماعية، والسياسية، والقانونية، والاقتصادية، بل وكل حياتنا في الواقع.
فمن كان يتصوَّر قبل سنين أن تنتشر «محلات» الهاتف النقال والكمبيوتر والإلكترونيات في أسواقنا، بل وقرأنا هذا الانتشار، وأن يتحول بعض الشباب والمستثمرين إلى أغنى الأغنياء بلا رأسمال، من خلال بيع المواقع والخدمات، أي ما كان يعتبر لدى الجيل السابق بمثابة بيع الأوهام والهواء.. وموجات الأثير! صحيفة "القبس" الكويتية تحدثت قبل أشهر عن «قصة نجاح كويتية - عالمية.. بامتياز».. وأضافت شارحة:
«في عام 2003، خرج الشاب الكويتي محمد نبيل جعفر بفكرة كانت الأولى من نوعها في الكويت، وقد تكون في الشرق الأوسط، وهي تأسيس موقع إلكتروني يضم تحت مظلته مختلف أنواع المطاعم، ويختص في الربط بين المطعم والمستهلك، فكرته أبصرت النور في عام 2004 تحت اسم «طلبات دوت كوم»، لتقدم للمستهلكين خدمة سهلة وسريعة من أجل الوصول إلى المطاعم المفضلة، كل ما يتطلبه الأمر، هو خطوات بسيطة وسهلة باستخدام الكومبيوتر الشخصي، أو الجوال من أجل اختيار طلبك المفضل عن طريق طلبات دوت كوم. المشروع الذي بدأ بفكرة بلغت قيمته اليوم 169.6 مليون دولار، ضمن صفقة استحواذ بنسبة 100% من قبل شركة ألمانية مقرها فرانكفورت، وتختص في المجال نفسه، ولكن بشكل أوسع يشبه الخدمات التي يقدمها موقع أمازون».
هل ستتغير مجتمعاتنا لمجرد استخدام آخر تقنيات التواصل والاتصال.. وتبادل المعلومات؟ هل نحن اليوم في العالم العربي أكثر نضجاً أم أشد سخطاً أو أننا في حالة من الصدمة والذهول؟ لقد أظهرت تطورات «الربيع العربي» القدرات الهائلة لهذا المارد الكامن في مجتمعاتنا من خلال كتلة الشباب. ولكن عواقب الأحداث برهنت على أن الشباب أبعد ما يكونون عن الإمساك بخيوط الأحداث، وأن قوى التخلف والعنف والفساد لا تزال قوية راسخة، وأن هذا المارد الشاب، فيما يرى الكثيرون.. رجلاه من صلصال! وأنه ينظر إلى الآفاق والسماء ويغفل عمّا حوله من مخاطر وما في طريقه من حفر وعثرات.
بيدنا حقاً آخر منتجات العلم والتكنولوجيا والابتكار، ولكن هل مجتمعاتنا قائمة، كما بلدان أوروبا وبعض آسيا، على العلم والمعرفة والتنظيم العصري، أم أننا أسرى التقاليد وقبور الأقدمين والواسطات والزعامات من كل لون؟ إذا لم نطور مجتمعاتنا ونشحذ جهازي القانون والعدالة ونتبنى العصرنة والحداثة، فلن يزيدنا هذا التقدم التقني إلا تخلفاً وفساداً، حيث تتضاعف فرص السرقة وسبل إخفاء آثار الفساد، ومعها سهولة تحويل المسروقات!
أحد المشاركين اليائسين في الندوة قال إننا ربما في العالم العربي مثل ركاب سفينة «تايتنك» بعد أن ارتطمت بالصخرة الجليدية وصارت تستغيث ولا مغيث. وأضاف أن غالبية الجماهير، مثل ركاب السفينة الفقراء، لا يعرفون شيئاً عما ينتظرنا مع نهاية هذا القرن، وآخرون يعرفون ويتجاهلون، ونخبة الأثرياء والموسيقيين ممن يحاولون الاستمتاع باللحظات الأخيرة.. وما سيكون سيكون! كشفت أدوات التواصل الاجتماعي ثغرات قوانيننا، وعرّت مفاهيمنا حول ما هو مسموح وما هو ممنوع، وأظهرت على الملأ ما يجري في الخفاء وما هو مسكوت عنه.. فهل سنصمد طويلاً؟ وهل ستتحمل مجتمعاتنا وقوانيننا وتقاليدنا بسهولة.. كل هذا؟!
أتاحت أدوات التواصل هذه لكل إنسان أن يعرف ما يريد، وما لا يريد، وما يحتاج وما هو في غنى عنه. ولكن هل كل إنسان بحاجة لأن يعرف كل شيء، ويتابع كل خبر وحدث لحظة حدوثه، أولاً بأول وفي كل مجال؟ الكثيرون منا يستمتع الواحد منهم بهذه المعرفة والمتابعة، وبهذه «السلطة المعرفية» التي تميزه عن الآخرين، ولكن ألا نرى هذه المعرفة والمتابعة اللاهثة تتسبب في التسرع والسطحية والتعميم والارتجال؟ هل أدوات التواصل هذه تثري المضمون الفكري للمعلومات، وهل تحول المتابع لها إلى مفكر؟
هل أصبحنا بعد إتقاننا لهذه الأدوات والإلكترونيات أكثر احتراماً للحضارة، والثقافة، والتقدم، والتنمية؟ فلماذا إذن أكثر من يستخدمها هم الإرهابيون، حيث يقال كما ذكرنا في مقال سابق إن تنظيم "داعش" وحده ينشر يومياً 250 ألف تغريدة على مواقع التواصل من «تويتر» و«فيسبوك»: وأن "داعش" يعتمد اعتماداً كلياً على «الهاكرز»، وعلى الدعاية الإلكترونية لما تعتبرها الدولة الإسلامية والخلافة؟لقد نادينا طويلاً، منذ القرن التاسع عشر، بأخذ الماديات والمخترعات من أوروبا والغرب، مع الاحتفاظ بقيمنا وتقاليدنا ولغتنا وعاداتنا. فهل ستؤثر هذه الأدوات في كل ما ظنناه بمنجاة عن التأثير والاكتساح؟