العرب - للوهلة الأولى ظننت أن من ألقى خطاب البيال في ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري ليس سعدالدين الحريري، خصوصا على صعيد الشكل والإلقاء. راجع خطابات الحريري في ذكريات 14 آذار، تذكر تلاوته لبيان حكومته في البرلمان، ستجد أن من ألقى خطاب البيال – إلقاء وشكلا – هو شخص آخر.
في الخطابات السابقة، غير بعض الملل الذي استبدل في البيال بالتماسك، كان الملقي هو الوريث، صدفة الاغتيال الملعونة قادته إلى الزعامة، وصل إلى المقعد الأول قبل وقته بكثير، لكن من تحدث في البيال ليس الوريث، هو الزعيم فعلا وحقا وحتما، كاريزما طاغية قوامها التعاطف والأمل، ثقة بالنفس تمكّنت من الحاضرين والمشاهدين تأثيرا وإقناعا بفضل المنطق المتين، كل من كان ينتقد سعد الحريري نظير الغياب والأداء – وأنا منهم – نسي كل شيء أمام مشهد العودة.
هذا هو أهم وأنجح وأنضج خطاب ألقاه سعد الحريري منذ خلف والده، تناسى كل ما كان قبل 14 فبراير 2016 وأبدأ من هذا التاريخ، تناغم المنطق والهيبة والحضور وضع المزايدين والخصوم في أقصى الزوايا، نقل النقاش من الزواريب الطائفية إلى قواعد الدستور والوطن، منح السنّة جرعة معنوية وسياسية كانوا في أمسّ الحاجة لها، ذكّرهم بأن الزعيم حاضر ويتحمل مسؤولياته، لذلك نحن أمام خطاب ممتاز.
يجب أن لا نصدق أن الحريري تعمد الإساءة إلى حزب القوات اللبنانية وزعيمها د. سمير جعجع، كما قال الحريري في اليوم التالي، والسبب أهم من الحكيم والحريري معا، لبنان و14 آذار، بعض محازبي الطرفين تفننوا في سكب الزيت على النار وهذا ليس من مصلحة أحد، برحيل جنبلاط عن قوى 14 آذار فقدت ثورة الأرز نصف قوتها، ومن يريد استبعاد جعجع أو تجاهله سيفقد ثورة الأرز روحها ولبنانيتها، ومن يريد استبعاد الحريري أو تجاهله سيضيع تأثير تيار السيادة والاستقلال نهائيا. توتر العلاقة بين المستقبل والقوات قبل 14 فبراير سببه سيادة اللغة الطائفية في المشهد اللبناني، وحين تحضر الطائفية تتلاشى ثورة الأرز التي قام بها اللبنانيون لا الطوائف، ومن حسن الحظ أن ذكرى استشهاد رفيق الحريري الوطنية خففت من التشنج الطائفي.
إنني متفائل بأن الأمانة العامة لقوى 14 آذار قادرة على إنجاز المراجعة النقدية ولمّ الشمل، لكن هذا النقد الذاتي لن ينجح إلا إذا اعترف كل طرف في ثورة الأرز بالأخطاء التي ارتكبها وعلى رأسهم سعد الحريري نفسه. لقد تحدثنا عن الأخطاء سابقا: الغياب، ترهّل تيار المستقبل وحضور عديمي الكفاءة في بعض المواقع، غياب الدقة أحيانا في إدارة العلاقة مع الحلفاء والخصوم، ضعف إدارة المال السياسي والمؤسسات المحيطة به، عدم ملاحظة مكامن القوة في قوى 14 آذار، وأقصد هنا جمهور 14 آذار وشارعه.
هذا الشارع نسيه قادة 14 آذار مع أنه هو السلاح الفاعل والرابح لثورة الأرز، لقد استطاع الحريري تبرير ترشيح سليمان فرنجية بحرفية حاسمة، لكنني أعتقد أننا وصلنا لهذه النتيجة بسبب هجران الشارع، لو أعادت قوى 14 آذار جمهورها إلى ساحة الشهداء تستطيع الضغط في معركة الرئاسة وربما الانتصار، وفي حال أصرّت على نسيان جمهورها لن تتقدم خطوة في معركة الفراغ. المطلوب من سعد الحريري باختصار هو إعادة توحيد السنّة تحت قيادته لصد الاستهداف الأقلّوي المتمثل في سياسات ولغة محور الممانعة ضدهم، إعادة الروح لثورة الأرز وتوحيدها على أسس واضحة وعادلة وسليمة، إعادة هيكلة تيار المستقبل وإنصاف حلفائه من غير السنّة، وليس آخرا العودة إلى ساحة الشهداء.
بعد خطاب الحريري شاهدنا خطاب أمين عام ما يسمّى بحزب الله السيد حسن نصرالله، وبالمقارنة بين الخطابين نتوصل إلى النتيجة النهائية التي تحدثنا عنها سلفا، أخطاء الحريري وعيوبه أفضل من حسنات نصرالله وإيجابياته، جهنّم الحريري ومحور الاعتدال أرحم من جنة إيران والحزب الإلهي، كان الحريري وطنيا ودستوريا في خطابه بينما كان نصرالله طائفيا واتهم السنّة تقريبا بالعمالة لإسرائيل، لبنان هو محور خطاب الحريري وموضوعه في حين أن خطاب نصرالله ليس فيه لبنان الذي لا يعترف به، دافع الحريري عن العروبة ونافح نصرالله عن الإرهاب، وفي كل الأحوال حين يذكر اسم الحريري نتذكر الإعمار والتنمية والدولة والصدق والمواطنة، في حين أن ذكر اسم الحزب الإلهي أصبح مرتبطا بالإبادة العرقية واستهداف الدولة والعنصرية والكذب، اسم تيار المستقبل مرتبط بحب الحياة بينما اسم الحزب الإلهي مرتبط بالموت وبالخراب وبالمخدرات وبغسيل الأموال، تنتقد سعد الحريري وتنام آمنا، لكنك إذا انتقدت نصرالله أو حزبه أو إيرانه تنتظر الرصاصة.
من ألقى خطاب البيال ليس سعد الحريري، بل هو نسخة أفضل، وليته لا يضيع أثره الممتاز بالخمول أو بالجمود أو بالرحيل، فالخوف عليه من نفسه ومن حاشيته قبل خصومه ما زال قائما مصداقا لقول الشاعر “وسوى الروم خلف ظهرك روم /فعلى أيّ جانبيك تميل”. قال الحريري إنه يتمنى لو كان رفيق الحريري مكانه، صدقني دولة الرئيس، لقد جاء رفيق الحريري الى قاعة البيال مشاهدا خطابك مع الحضور، وقد خرج فخورا بك، لا يهمّ أن تخذلنا، لكن إياك أن تخذل رفيق.